في محاولة لإعادة تعريف المكانة على الساحة الدولية بعد أكثر من عقد من العزلة والحرب، وفي ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، تبرز سلسلة من اللقاءات والتصريحات كمؤشرات على تكتيك ما، أو ربما على تحولات استراتيجية قد تلوح في الأفق السوري.. فكيف تحاول السلطات الجديدة في سوريا إدارة المرحلة؟ وأين تكمن المصلحة الحقيقية لسوريا والشعب السوري؟
نحو شراكة استراتيجية مع الصين
في 28 نيسان/أبريل 2025، التقى وزير الخارجية السوري، أسعد حسن الشيباني، بمندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير فو كونغ، في مقر المنظمة الأممية في نيويورك. اللقاء، الذي جاء في لحظة دقيقة من التحولات السياسية في الشرق الأوسط، أتى ليكرس توجه دمشق نحو تعزيز علاقاتها مع بكين في مختلف المجالات.
شدد الشيباني خلال الاجتماع على سعي سوريا لبناء شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع الصين، مؤكداً أن بلاده ترى في بكين حليفاً موثوقاً وشريكاً فاعلاً في الساحة الدولية، خصوصاً في ظل المواقف الصينية الداعمة لوحدة سوريا وسيادتها، ورفض التدخل في شؤونها الداخلية. ومن جهته، أكد السفير الصيني أن بلاده ستواصل الوقوف إلى جانب دمشق، مشيراً إلى أن العلاقات بين الشعبين لها جذور تاريخية عميقة، وأن هناك فرصاً كبيرة لتوسيع التعاون الثنائي في قطاعات الاقتصاد والثقافة والسياسة.
من دمشق إلى بكين: لقاءات سابقة تعزز التوجه شرقاً
لم يكن لقاء نيويورك هو الوحيد في مسار التقارب السوري الصيني، بل سبقه لقاء مهم في دمشق في 26 آذار 2025، حيث استقبل الشيباني وفداً صينياً رفيعاً برئاسة سفير بكين في سوريا، شي هونغ وي. اللقاء حمل رسائل سياسية واقتصادية واضحة، إذ جرى التأكيد على رغبة الطرفين في تعزيز التعاون وتوسيع أفق العلاقات لتشمل مجالات جديدة.
كما رحب الجانب السوري بموقف الصين الرافض للانتهاكات «الإسرائيلية» في الجنوب السوري، وهو موقف أكسب الصين نقاطاً إضافية في الشارع السوري الرسمي. وأكد السفير الصيني حينها التزام بلاده بمبدأ عدم التدخل، ودعمها لسوريا في تجاوز المرحلة الانتقالية.
وسبق ذلك زيارة رسمية للرئيس أحمد الشرع في 21 شباط 2025، حيث استقبل السفير الصيني في قصر الشعب، في أول لقاء علني منذ تغيير الحكم في سوريا، ما شكل مؤشراً على عودة العلاقات إلى مسار رسمي ومتقدم.
الوفد الأمريكي في دمشق: زيارة استثنائية بنكهة سياسية

في خطوة وصفت بالمفاجئة، زار عضوان في الكونغرس الأمريكي دمشق أواخر نيسان، في أول زيارة لمشرعين أمريكيين منذ سقوط الرئيس السابق بشار الأسد. العضوان الجمهوريان، كوري ميلز من ولاية فلوريدا ومارلين ستوتزمان من إنديانا، التقيا الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع، حيث جرى بحث قضايا العقوبات الأمريكية والدور الإيراني في سوريا.
الزيارة، رغم محدوديتها، تحمل دلالات سياسية كبيرة، خصوصاً أن أحد الزائرين صرح بأن الولايات المتحدة يجب ألا تخشى من الحديث مع أي جهة، في إشارة إلى رغبة محتملة بفتح خطوط تواصل غير رسمية مع الحكومة الجديدة. اللافت أن ستوتزمان أعرب صراحة عن مخاوفه من انزلاق سوريا في حضن الصين أو روسيا، مؤكداً أن بلاده لا ترغب في خسارة ساحة استراتيجية جديدة لصالح خصومها الدوليين.
سوريا بين واشنطن وبكين: دبلوماسية الأبواب المفتوحة
تبدو السياسة الخارجية السورية اليوم أكثر براغماتية من أي وقت مضى، حيث تسعى دمشق إلى توسيع خياراتها وعدم الانحياز الكامل إلى أي محور. فهي من جهة تحرص على توثيق علاقاتها مع الصين التي أثبتت دعمها الدبلوماسي والاقتصادي، ومن جهة أخرى تترك الباب موارباً أمام واشنطن، رغم العقوبات والتوترات.
الإدارة السورية الجديدة تحاول بذلك أن تتبنى سياسة «الانفتاح على الجميع»، مستفيدة من تغير موازين القوى العالمية، ومن حاجة القوى الكبرى إلى حلفاء في منطقة الشرق الأوسط. ويبدو أن القيادة في دمشق تراهن على تقديم نفسها كشريك يمكن التعامل معه، بعيداً عن الاستقطاب الحاد الذي ساد في العقود الماضية.
أين تكمن مصلحة سوريا؟
يبقى السؤال الأهم: إلى أي جهة يجب أن تميل الكفة السورية؟ هل في التقارب مع الصين تكمن مصلحة البلاد؟ أم أن فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة قد يسرّع من إنهاء العقوبات ويطلق عجلة الإعمار؟
الصين تقدم نفسها كشريك لا يشترط تغييرات سياسية مقابل الدعم الاقتصادي، كما أنها تمتلك مشاريع استراتيجية في إطار «مبادرة الحزام والطريق» يمكن لسوريا أن تستفيد منها في إعادة إعمار ما دمرته الحرب. في المقابل، الولايات المتحدة تمتلك مفاتيح النظام المالي العالمي، وتستطيع من خلال قرار واحد أن ترفع جزءاً كبيراً من المعاناة الاقتصادية التي تعيشها سوريا، لكنها في المقابل تطالب بإصلاحات عميقة وتضع شروط على السلطات الجديدة في سوريا.
اقرأ أيضاً: رسالة دمشق تكشف تفاصيل الرد على شروط واشنطن
في النهاية، هناك من يرى اليوم أن مصلحة سوريا مع الصين، وهناك من يرى أن الغرب ورجالاته ومؤسساته هي الحل، لكن ربما المصلحة الحقيقية قد تكون اليوم في تحقيق أكبر قدر من المكاسب دون تحالفات نهائية مُلزمة كنوع من التكتيك السياسي في بداية الحكم الجديد. إذ تمتلك دمشق فرصة نادرة لإعادة رسم سياستها الخارجية على أسس واقعية وبراغماتية تضمن لها السيادة والاستقرار، وتفتح أبواب التنمية من جديد.