منصة بينانس Binance هي واحدة من أكبر منصات تداول العملات الرقمية وأشهرها في العالم، وقد أعلنت هذه الشركة مؤخراً رفع سوريا من قائمة الدول المحظورة، وذلك بعد قرار الرئيس الأمريكي Donald Trump رفع العقوبات، ما يمكّن المواطن السوري من الوصول إلى خدمات العملات المشفّرة في المنصة… إنه خبر مهم ولكن ماذا يعني؟ وكيف يمكن أن يؤثر على الحياة اليومية للمواطن السوري؟ في هذا المقال سنجيب عن هذه الأسئلة وأكثر.
بينانس تفك الحظر.. ماذا يعني؟
تأسست شركة بينانس عام 2017 في الصين، لكن بسبب حظر الحكومة الصينية تداول العملات المشفرة، قامت بنقل خوادمها خارج البلاد مسبقاً، وكانت خدمات الشركة فعالة في سوريا في البداية، لكن تم إيقافها عام 2019 بعد إدراجها في القائمة السوداء كدولة خاضعة لعقوبات غربية صارمة. العملات المشفّرة هي نقود إلكترونية تستخدم عبر الإنترنت بدلاً من النقود الورقية أو المعدنية.
لذا، حُرِم السوريون لسنوات من الوصول المباشر إلى منصات مثل بينانس، إلا بطرق ملتوية وغير مضمونة… لكن اليوم، بعد مرور أكثر من ستة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، تغيّر كل شيء، وجاء القرار الأمريكي برفع العقوبات، وبعده، أعلنت منصة بينانس رسمياً رفع الحظر عن سوريا.
وببساطة، هذا القرار يعني أن السوريين أصبح بإمكانهم إنشاء حسابات رسمية على المنصة، وتداول مئات العملات الرقمية مثل بيتكوين BTC وريبل XRP وتون كوين TON، وذلك دون الحاجة لاستخدام برامج VPN أو اللجوء إلى حسابات أجنبية، ولسهولة فهم هذا العالم المعقد، قامت المنصة بإضافة محتوى تعليمي باللغة العربية.
أكدت بينانس في بيانها أن “الحرية المالية يجب أن تكون حقاً للجميع”
فسوريا، التي يقدّر عدد سكانها بنحو 24 مليون نسمة داخل البلاد، وما بين 8 إلى 15 مليون في الخارج، تعاني من تراجع حاد في قيمة الليرة السورية، وقد جعل هذا الواقع الاقتصادي الصعب التحويلات المالية الخارجية من أهم وسائل البقاء بالنسبة لكثير من العائلات على مدار سنوات طويلة.
وترى بينانس أن هذه التحديات ساهمت بشكل مباشر في زيادة الاهتمام بالحلول المالية البديلة مثل العملات المشفّرة، فقد أشارت إلى أن ملايين السوريين يهتمون بشكل كبير بالعملات المشفرة، ما جعلها حتى عام 2021، من بين أكثر عشر دول في العالم نشاطاً في البحث المتعلق بالعملات الرقمية رغم القيود المفروضة.
وفقاً لبيانات TradingView شكّلت الاستفسارات المتعلقة بالعملات المشفرة حوالي 36.9% من إجمالي الاستفسارات في البلاد، وكان 55.1% من مستثمري العملات المشفرة في سوريا ينتمون إلى الفئة العمرية 18-24 عاماً -وفقاً لإحصاءات أخرى-.
والآن، ستدفع هذه التسهيلات التي قدمتها المنصة العديد من الشركات إلى اتخاذ خطوة مشابهة، وبالفعل، سارعت منصة Bitget للإعلان عن فتح خدماتها رسمياً للمستخدمين السوريين اعتباراً من 12 حزيران الجاري، مع إمكانية الوصول الكامل إلى جميع ميزاتها.
اقرأ أيضاً: «التعويم المدار» الذي أعلن عنه المركزي.. ما هو ولماذا الآن؟!
تاريخ العملات المشفّرة
أي شخص مطّلع اطّلاعاً بسيطاً على هذا العالم الغني سيخبرك بأن البيتكوين هي أول عملة رقمية وُجدت… إنه أمر صحيح باعتبارها أول عملة تم تداولها بشكل رسمي، ولكن قبلها كانت هناك محاولات عديدة لإنشاء عملات رقمية… ففي الثمانينيات والتسعينيات، قدم عالم التشفير David Chaum فكرة جديدة تهدف إلى تمكين الناس من إرسال الأموال إلكترونياً بطريقة آمنة وخاصة، بحيث لا يستطيع أحد معرفة من أرسل المال ومن استلمه، وقد أطلق على هذه الفكرة اسم eCash، لكنها لم تحقق نجاحاً كبيراً.
بعد ذلك، حاول آخرون ابتكار عملة إلكترونية تسمح بنقل ملكية الذهب عبر الإنترنت، لكنها تعرضت لسوء استخدام في بعض الأحيان لأغراض غير قانونية… ثم جاء عام 2009، حيث أطلق شخص يدعى Satoshi Nakamoto -لا زال مجهولاً حتى اليوم- العملة الرقمية البيتكوين، التي تعتمد على نظام لامركزي لا يحتاج إلى بنوك أو وسطاء، ويستطيع الناس من خلاله تبادل الأموال مباشرة مع بعضهم البعض.
ومن أشهر القصص المرتبطة بالبيتكوين، قصة المبرمج Laszlo Hanyecz الذي قام بأول عملية شراء حقيقية باستخدام البيتكوين في عام 2010، حيث دفع 10,000 بيتكوين مقابل بيتزا، وكانت قيمة البيتكوين حينها منخفضة جداً، لكن مع مرور الوقت ارتفعت قيمتها بشكل هائل.
جدير بالإشارة أنه في البداية، كان بإمكان أي شخص إنتاج البيتكوين باستخدام جهاز كمبيوتر عادي، ولكن مع مرور الوقت أصبحت عملية الإنتاج تتطلب أجهزة متخصصة وقوية، وأصبحت شركات ضخمة تدير عمليات التعدين بمليارات الدولارات.
اقرأ أيضاً: الليرة السورية: هل هي ورقة بلا وزن في سوق دون ثقة؟
ورغم الأهمية المتزايدة التي باتت تحتلها هذه العملات في عصرنا إلا أنه يمكن خسارتها بكبسة زر! سواء بسبب فقدان المفتاح الخاص -كلمة السر للوصول إلى العملات- أو جراء التعرض للاختراق والسرقة، خاصة وأنها غير مدعومة من البنوك المركزية، ولكن لماذا لا تدعمها البنوك؟
لا تصدر عملة البيتكوين عن جهة حكومية أو سلطة رسمية، ولا تعتمد على أي قاعدة إنتاجية حقيقية بل كلها عبر شبكة الإنترنت… وفي تحليل جاء في مقال بعنوان The cryptocurrency gample، تم تصنيف البيتكوين كنوع من “رأس المال الوهمي”، لأنه لا يمثل قيمة مادية ملموسة، بل يعتمد فقط على توقعات السوق والمضاربات، لذا فهي لا تحقق الاستقرار المالي المطلوب، ولا تخضع لرقابة تنظيمية، كما لا توجد مؤسسة رسمية تضمن قيمتها!
سبب آخر قد يجعل البنوك تبتعد عن دعم العملات، وهو قابلية استخدامها في غسيل الأموال والتمويل غير المشروع، مثل تهريب الأموال، تمويل الإرهاب أو تجارة غير قانونية، إضافة إلى أن تقلبات أسعارها غير المنطقية (مثل صعود بيتكوين ثم هبوطه بمقدار 70% في فترة قصيرة) تهدد الاستقرار الاقتصادي إذا تم اعتمادها بشكل واسع، والبنك المركزي مسؤول عن استقرار النظام المالي، والاعتماد على هكذا عملات قد يعرضه للخطر.
العملات المشفّرة في سوريا وتحدياتها
قبل سقوط النظام ومع العقوبات المفروضة سابقاً لم يكن أمام السوريين خيار التعامل المباشر بالعملات المشفرة، فهذه العملات تعتمد بشكل أساسي على التحويلات البنكية الخارجية، وإن كنت تعرف أشخاصاً دخلوا هذا العالم فهم غالباً كان لديهم وسطاء في الخارج يفتحون لهم حسابات ومحافظ إلكترونية تتيح لهم التداول، لكن مع رفع الحظر اليوم، سيتمكن السوريون من التعامل بسهولة مع العملات الرقمية.
مع ذلك، سيكون هذا الطريق مليئاً بالتحديات، فالاقتصاد يشهد تقلبات حادة تعيق نمو سوق مستقر للعملات الرقمية، كما أن غياب القوانين والتنظيمات الواضحة يخلق بيئة غامضة تحمل مخاطر كبيرة، من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل العقبات التكنولوجية التي تواجه البلاد، مثل الوصول إلى الإنترنت السريع في كل المناطق ما قد يعرقل توسع انتشار هذه العملات.
إلى جانب ذلك، لا يوجد وعي كبير بالعملات المشفّرة في المجتمع السوري، لذا لا بد من وجود مبادرات تثقيفية ونشر المعلومات بشكل بسيط ومفهوم لتمكين الناس من فهم طبيعة هذه العملات وطريقة تداولها.
ولكن رغم الصعوبات التي قد تواجه السوريين في البداية، قد تكون العملات مخرجاً رقمياً مهماً لهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، فهي تتيح حماية قيمة المال في وقت تفقد فيه الليرة السورية قوتها بسرعة، وتستخدم بسهولة دون وسطاء، ما سيمكّنهم من إرسال واستقبال الأموال من الخارج بسرعة وبتكاليف أقل، وهذا أمر مهم جداً للذين يعتمدون على الحوالات من أهلهم خارج سوريا.
في عام 2023 تراوحت تقديرات حجم التحويلات المالية السنوية إلى سوريا بين 3 إلى 6 مليارات دولار أمريكي، وتعدّ هذه التحويلات المصدر الرئيسي للعديد من الأسر السورية لتلبية احتياجاتها اليومية في ظل الظروف الصعبة.
العملات المشفرة تمنح أيضاً خصوصية وأماناً في التعاملات -نوعاً ما-، ولا يمكن لأي جهة أن تتحكم بها أو تمنع استخدامها، كما أنها تتيح التحويل بين عملات مختلفة بسهولة، لذا يمكن أن تكون وسيلة عملية ومفيدة تساعد السوريين على التكيّف مع التحديات المالية اليومية.
جدير بالذكر أنه في آذار الماضي -قبل رفع العقوبات- تناول المركز السوري للبحوث الاقتصادية، وهو جهة مستقلة غير حكومية، دراسة تقترح رقمنة الليرة السورية ضمن خطة لإصلاح الاقتصاد بعد سنوات من الحرب.
وبحسب الدراسة، فإن اعتماد نسخة رقمية من الليرة مدعومة بالبيتكوين والذهب والدولار الأمريكي، يمكن أن يخفف من حدة التضخم وارتفاع الأسعار، ويمنح السوريين بديلاً آمناً أكثر من العملة الورقية، كما قد يفتح الباب أمام الاستثمارات الخارجية… فهل ما زلنا بحاجة لهذه الخطوة أم أن رفع العقوبات أمر كافٍ؟!
ببساطة، قد يمنح الانفتاح على العملات الرقمية في سوريا الناس فرصة للتنفس وتحسين الوضع المعيشي، هي خطوة صغيرة اليوم… لكنها قد تفتح باباً واسعاً نحو غدٍ أفضل.
اقرأ أيضاً: هل طباعة العملة حل للأزمة الاقتصادية السورية؟