منذ بدء شرارة الحرب في 15 آذار 2011، شهدت سوريا تغييرات ديموغرافية واقتصادية نتيجة موجات الهجرة والنزوح، الأمر الذي أثر على تركيبة المدن والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية داخل سوريا، وامتد أثره إلى جيرانها بما فيها لبنان.
فقد كشفت الإحصاءات الأخيرة، عن تحول لافت في المشهد الديموغرافي اللبناني، نتيجة انخفاض عدد السكان اللبنانيين الأصليين مقابل زيادة الأعداد غير اللبنانية، لاسيما السوريين.
ويشير مصطلح “التحول الديموغرافي” إلى التحول التاريخي في عدد السكان مدفوعًا بعوامل طبيعية تتمثل في معدلات الوفيات والولادة إضافة إلى بعض عوامل الهجرة الطبيعية، والتي قد تحدث تغيرًا واضحًا في شكل المجتمعات على مر العقود.
أرقام تعيد تشكيل المشهد الديموغرافي
تشير الإحصاءات التي كشف عنها المهندس اللبناني شربل نحاس، الذي يشغل حاليًا منصب الأمين العام لحركة “مواطنون ومواطنات في دولة”، إلى تحول تاريخي واضح في التركيبة السكانية لسوريا ولبنان، ففي أربعينيات القرن الماضي كان يمثل عدد سكان لبنان حوالي 40% من سكان سوريا (أي تقريبًا نسباً 66% مقابل 34%).
وبعد ذلك، وبحلول عام 2000 انخفضت هذه النسبة إلى 20%، بسبب اندلاع الحرب السورية التي أدت إلى تدفق هائل من السوريين الفارين من الحرب؛ مما أثر بشكل مباشر على التركيبة الديموغرافية اللبنانية، ورفع نسبة أعداد غير اللبنانيين المقيمين في بيروت إلى حوالي 1.5 مليون نسمة مع زيادة بلغت 31% في عام 2018، غالبيتهم العظمى من السوريين.
وتتضح تداعيات هذه الهجرة بشكل أكبر عند النظر إلى الفئات العمرية للسكان، حيث سجلت الفترة من 2004 إلى 2018 نمواً ملحوظاً في عدد السوريين، خاصة من فئة الشباب، بينما كانت نسبة كبار السن قليلة جداً.
وفي عام 2023، تساوى عدد الأطفال السوريين (حتى عمر 15 عامًا) مع مثيلهم من الأطفال اللبنانيين المقيمين في لبنان فقط وليس خارجها، مما يعكس معدلات إنجاب أعلى لدى اللاجئات السوريات، الأمر الذي أسهم في تغيير التركيبة السكانية بشكل أسرع.
وأكد النحاس أنه في حال استمرار الوضع الحالي، سيتساوى عدد اللبنانيين المهاجرين مع المقيمين في 2038، أي قد تصل نسبة غير اللبنانيين (غالبيتهم سوريون) إلى 50% من السكان، وسيشكل السوريون النسبة الأكبر من فئة الشباب في سن العمل.
أما في حال انخفضت هذه النسبة، فيشير النحاس إلى أن نسبة اللبنانيين من المقيمين كانت حوالي 90% قبل الحرب السورية، ومع الحرب انخفضت إلى 70%، واستمرت في الانخفاض بسبب الهجرة؛ وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، ستصل النسبة إلى حوالي 50% بحلول عام 2038، والهدف هو عكس هذا المسار لاستعادة نسبة اللبنانيين إلى 70%.
ومن جانب آخر، كشفت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين مؤخراً، بأن نحو 300 ألف لاجئ سوري (ما يقارب 20% من إجمالي 1.5 مليون لاجئ) عادوا إلى وطنهم منذ سقوط نظام الأسد، بينما أظهر استطلاع حديث استعداد حوالي 35.5 ألف سوري للعودة خلال الأشهر الـ12 المقبلة حال توافر الموارد المالية والدعم اللازم.
على الرغم من أن أعداد العائدين تبدو قليلة نسبيًا، إلا أن المفوضية تشير إلى وجود رغبة قوية لدى الكثير من اللاجئين السوريين للعودة إلى بلادهم، لكنهم يتمسكون بانتظار تسوية العديد من القضايا والظروف داخل البلاد قبل اتخاذ قرارهم النهائي.
اقرأ أيضاً: التسهيلات التركية تسرّع عودة السوريين عبر معبر كسب
سوريا ولبنان ومفارقة الأرقام والدلالات
تكشف الأرقام عن مفارقة ديموغرافية واسعة عند مقارنة لبنان بسوريا، فعلى الرغم من أن نحو 60% من اللبنانيين يقيمون في الخارج، إلا أن الهجرة السورية خلال السنوات الأخيرة كان تأثيرها أكبر وأوسع.
ووفقاً لبيانات صادرة عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فإن عدد السوريين الذين غادروا البلاد منذ عام 2011 تجاوز 8.6 مليون لاجئ، بينما نزح داخلياً أكثر من 6.7 مليون شخص، مما يعني أن أكثر من نصف سكان سوريا الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 23 مليون نسمة، إما غادروا البلاد أو اضطروا إلى تغيير أماكن سكنهم داخلها، مما جعل الهجرة السورية مكوّنًا أساسيًا في المشهد السكاني للبلاد.
في المقابل، لم يشهد لبنان انهيارًا ديموغرافيًا بالحجم نفسه، رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة، لكن المفارقة تكمن في أن تدفق السوريين إلى لبنان أدى إلى إعادة تشكيل تركيبته السكانية.
الاقتصاد السوري في ظل الهجرة:
لم تكن الهجرة السورية مجرد نزوح من الحرب، بل رافقتها خسائر فادحة للاقتصاد الوطني واليد العاملة والخبرات والأموال، وكان أخطرها هجرة العقول حيث خسرت سوريا خيرة شبابها وكفاءاتها، ناهيك عن التغيير الديموغرافي الذي جعل العديد من المناطق شبه خالية من سكانها. والنتيجة كانت اقتصاد منهك، ومستقبل مجهول لسورية.
إن ما حدث في سوريا يؤكد أن الحل لا يكمن فقط في وقف الحرب، بل في تبني رؤية جديدة تدفع بعجلة التعافي الاقتصادي وتحسن الوضع المعيشي، وتسهيل عودة اللاجئين، واشراك كل السوريين في وضع مستقبل بلادهم.
اقرأ أيضاً: السوريون في ألمانيا: بين تراجع الأعداد ورحلة اندماج ناجحة