المجتمع السوري

الهجرة من الريف إلى المدينة.. ملف متجدد على الطاولة السورية

شهدت سوريا على مر عقود موجات متتالية من الهجرة إلى المدن الكبرى. هاجر سكان الريف بحثاً عن فرص العمل أو التعليم العالي أو الخدمات الأساسية التي تفتقر لها المناطق في الريف. الهجرة إلى المدن في سوريا لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل مأساة اجتماعية وإنسانية كان لها انعكاس على العائلات الريفية وهويتها، وعلى المدن من حيث الاكتظاظ وضيق سبل العيش. في هذا المقال سنعرض، أسباب الهجرة، حال الهجرة إلى المدينة مؤخراً وتداعياتها.

إحصائيات الهجرة من الريف إلى المدينة

تبلغ الكثافة السكانية في سوريا لعام 2025، ما يقارب 140 نسمة لكل كيلومتر مربع (361 نسمة لكل ميل مربع)، محسوبة على إجمالي مساحة الأرض البالغة 183,630 كيلومتر مربع (70,900 ميل مربع).

سَجل عدد سكان المدن في العام 2024  نسبة بلغت 58.4%، بزيادة عن57.41% في عام 2023. كما بلغ متوسط ​​سوريا من عام 1960 إلى عام 2024 ما يقارب 48.92% وقد تم الوصول إلى الحد الأدنى، 36.81%، في عام 1960 بينما سُجلت أعلى قيمة، 58.4%، في عام 2024.

بلغ متوسط نسب الهجرة من العائلات حتى وصلت إلى ما بين (20 و70%)، في العامين 2022 و2023، وتكاد هذه الهجرة تكون يومية، من جميع الأحياء، بنسب تتفاوت بين مدينة وأخرى، وبمتوسط (1- 6%) في الشهر، مقارنة بعدد السكان، وبنسبة راوحت ما بين (1.6 و29%) في 2023. وبيّنت تقديرات أفراد العينة أن وسطي نسبة الهجرة من الأحياء الموجودين فيها وصل إلى ما بين (4 و61.8 %)، في عامي 2022 و2023.

وأظهرت النتائج الميدانية أن هناك ميلاً باتجاه هجرة النساء، إذ تصل النسبة إلى (40-50%)، مقارنة بالذكور، ومقارنة بالموجة الأولى من الهجرة 2012-2019، حيث كانت تطغى عليها هجرة الذكور، بسبب ظروف الحرب وغيرها.

اقرأ أيضاً: الهجرة والتحول الديموغرافي.. كيف تغيرت خريطة سوريا ولبنان؟

أسباب الهجرة من الريف إلى المدينة

تنوعت الأسباب وتعددت، لكن النتيجة واحدة وهي الهجرة.. رغم التحسينات التي طالت الريف في السنين الماضية من إعادة تأهيل للبنية التحتية وبناء المدارس، إلاّ أن الاهتمام بالمدن والسعي لتطويرها، يبقى متقدماً على الريف. سنعرض أبرز أسباب الهجرة وأكثرها شيوعاً:

الجفاف وانخفاض الإنتاج الزراعي

انخفاض الإنتاج الزراعي العامل الأبرز للهجرة سواء بسبب سوء السياسات الحكومية السابقة تجاه الريف لاسيما الزراعية منها، فسبب الانخفاض الفقر والجوع. إضافة لتعاقب فترات الجفاف وزيادة تكاليف الإنتاج الزراعي ومردوديته الضئيلة على الفلاح وحدوث الكوارث والنكبات والحروب، إلى جانب افتقار المناطق الريفية للاستثمارات الصناعية والخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية والثقافية، كل هذه الأسباب تمثل عوامل طرد تدفع الريفيين للهجرة إلى المدن. وهذه الهجرة أفرغت الريف من اليد العاملة ما فاقم مشكلة الإنتاج الزراعي.

البحث عن عمل نتيجة تراجع الزراعة

تردي وضع الريف السوري، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي، وتراجع القطاع الزراعي بسبب شح المياه والسياسات الاقتصادية غير المدروسة، عوامل زادت في بطالة الأرياف، فدفعتهم إلى مزيد من النزوح إلى المدن الكبرى، حيث أسهمت هذه الهجرة غير المنتظمة في تشكّل أحياء عشوائية تفتقر إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية ضمن المدن، الأمر الذي عمّق التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين الريف والمدينة ضمن المدينة ذاتها، إذ تم التعامل مع سكان الأحياء العشوائية على أنهم مواطنون درجة ثانية بسبب عملهم في وظائف هامشية لا توفر استقراراً اقتصادياً طويل الأمد لهم.

يرى ابن الريف بالمدينة فضاءً رحباً للأعمال، على عكس محدودية القرى وحصر أعمالها في الزراعة وتربية المواشي وما ينتج عنها، على عكس المدينة التي تشهد تنوعاً صناعياً ومهنياً، ما يفتح المجال لابن الريف لاستثمار قدراته وتنمية مهاراته وعدم حصرها في مجال محدد.

التعليم المتفاوت

كان هناك ترسيخ دائم لمفهوم المدينة وتفوّقها على الريف، حيث تركزت الجامعات في المدن، وأحياناً المدن الرئيسة فقط، ما دفع طلاب الريف للهجرة إلى المراكز الحضرية لمتابعة تعليمهم العالي، على الرغم من التوسع النسبي في إنشاء المدارس في الأرياف، فإن الفجوة بين جودة التعليم في المدينة والريف ظلّت كبيرة. فالمدارس في المدن، وخاصة في دمشق وحلب واللاذقية وحمص، تتمتع ببنية تحتية أفضل، وكوادر تعليمية أكثر تأهيلاً، وإمكانات بحثية أكثر تطوراً، مقارنة بالمدارس الريفية التي تعاني من نقص الكوادر وضعف الإمكانات اللوجستية وتآكل البنى التحتية في بعضها.

تركز الاهتمام على المدن وإهمال الريف

تركز الاهتمام على المدن، لأسباب تاريخية أو اقتصادية أو سياسية. بجميع مراحل سوريا كانت المدن مركز الاهتمام من جميع النواحي. لطالما تم اعتبار مدينة حلب العاصمة الاقتصادية السورية والعمود الفقري لحركة المال في سوريا، وكانت دمشق مصدر صناعة القرار السياسي ومركز السلطة الدائم منذ إعلان قيام الدولة في سوريا، حيث تركزت السلطة والثروة والخدمات في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب. رغم أن الريف كان المحرك الأساسي للحركات الثورية ضد الاحتلال، على سبيل المثال: الثورة السورية الكبرى (1925-1927) مثال على تفوق الريف في التضحية والمقاومة مقارنة بالمدن التي انحصرت أدوارها غالباً في الجوانب السياسية، ثوار الغوطة في دمشق ومقارعتهم للاحتلال الفرنسي والتسبب بخسائر له.

عوامل عديدة تدفع سكان الريف إلى الهجرة نحو المدن، كان ما عرضناه أبرزها.. هذه العوامل لا تحتاج سوى لاهتمام بسيط وخطط حكومية تنموية، فإفراغ الريف من أهله ومن اليد العاملة سيؤدي لتراجع الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية ما سينعكس على غذاء المدن، واكتظاظ المدن سينعكس على تناقص فرص العمل والمسكن. بالتالي الجميع خاسر من هذه الهجرة.

اقرأ أيضاً: الريف الأوسط في سوريا: أرض تقاوم الفناء

آخر موجات الهجرة من الريف إلى المدن في سوريا

مؤخراً، شهدت محافظة دير الزور تزايداً ملحوظاً في الهجرة نحو العاصمة دمشق بعد سقوط النظام، حيث تحولت الهجرة من حالات فردية إلى نزوح جماعي متسارع. يعزى هذا التحول إلى الظروف الأمنية والمعيشية الصعبة، وغياب مقومات الحياة الكريمة والآمنة. على الرغم من التحديات المعيشية والسكنية في العاصمة، يرى البعض أن الهجرة ليست خياراً، بل هي الملاذ الأخير بعد انهيار شروط العيش الأساسية في دير الزور.

وجد أهالي دير الزور أنفسهم مجبرين على الهجرة بشكل قسري، بسبب الدمار الذي لحق بالمدينة بفعل ما خلفه الصراع، إلى جانب الجفاف المتفاقم الذي قضى تقريباً على المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية في المنطقة الشرقية.

حلول الهجرة إلى المدينة في سوريا

في حال أردنا إيجاد حلول علينا متابعة العوامل التي أدت إلى هذه الهجرة ومعالجتها وفق المتاح. فهناك عوامل متضافرة أفضت لهذه النتيجة “اقتصادية، اجتماعية، خدمية”، عند دراستها والخروج بحلول مناسبة يمكن حل معضلة الهجرة التي أثقلت كاهل المدن وجعلت الريف فارغاً.

اقتصادياً، إن اقتراح وزارتي الزراعة والمالية بإعطاء قروض مساعدة للفلاحين يعتبر من أحد الحلول لمواجهة الهجرة ولو كان بسيطاً، فهذه القروض من شأنها دعم المحاصيل وتوفير مستلزمات الإنتاج بأسعار مناسبة، إلى جانب إنشاء مشاريع صناعية وزراعية لتشغيل شباب الريف ما يمنعهم من الهجرة للمدن بحثاً عن عمل. إعادة إحياء معامل الكونسروة وتركزها في الأرياف يحيي الريف وينشط الصناعة في آن معاً.

أما اجتماعياً، فيجب رفع مستوى الوعي حول أهمية البقاء في الريف لما يلعبه من دور في تحقيق الأمن الغذائي، مع القيام بحملات تشجع على العودة في الأماكن التي لم تشهد دمار وتحتاج إلى إعادة إعمار، عبر تقديم حوافز للأسر للاستقرار في مناطقها الأصلية، إلى جانب توفير فرص عمل للنساء على سبيل المثال مشاريع عرض منتجات المرأة الريفية سواء الزراعية أو الصناعية كالصابون وغيرها.

بالنسبة للحلول الحكومية، فالأولوية الآن لإعادة الإعمار، ثم وضع الخطط المتكاملة لتنمية المناطق الريفية، فجزء كبير من الريف السوري متضرر بسبب الصراع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى