مع التطورات الكبيرة التي تشهدها حركة التجارة والنقل، بدأت دول كثيرة حول العالم -ومنها دول عربية- تهتم بإنشاء الموانئ الجافة، وهي امتداد للموانئ البحرية ولكن في البر… ورغم أنّ هذا المفهوم حديث نسبياً في سوريا، إلا أنها بدأت تخطو بهذا الاتجاه بشكل واضح، ويظهر هذا جليّاً بعد الإعلان عن اتفاقيات مع شركات أجنبية لإنشاء موانئ جافة في مناطق مهمة من البلاد.
لذا، في هذا المقال، سنسلط الضوء على مفهوم الموانئ الجافة وأهميتها وفوائدها، ونستعرض مواقعها الإستراتيجية داخل سوريا، لنرى كيف يمكن لهذه المشاريع أن تسهم في تعزيز الاقتصاد وأكثر.
ولكن، قبل أن نتحدث عن واقع الموانئ الجافة في سوريا والاتفاقيات الحديثة المتعلقة بها، من المهم أن نفهم أولاً ما المقصود بهذا النوع من الموانئ، ولماذا أصبح جزءاً أساسياً من البنية اللوجستية في العديد من دول العالم.
فما هي الموانئ الجافة؟
الموانئ الجافة هي مناطق داخلية مخصصة لاستقبال وتخزين البضائع تُدار تحت إشراف الجمارك، وتضم مراكز للتخليص الجمركي لتسهيل إجراءات الاستيراد والتصدير، كما تضم مخازن كبيرة لتخزين البضائع، مرافق شحن مجهزة، وقد يُقام داخلها أيضاً معامل أو خطوط إنتاج تخدم المصانع القريبة.
تُقام هذه الموانئ عادةً قرب المناطق الصناعية، وتعدّ امتداداً برياً للموانئ البحرية أو الجوية، ويتم تجهيزها ببنية تحتية متكاملة من طرق مواصلات سريعة وشبكة اتصالات فعالة، إضافة إلى ربط جيد مع وسائط النقل المختلفة، ما يسهل عمليات النقل متعدد الوسائط.
فوائدها ووظائفها
تمتاز الموانئ الجافة بأهمية كبيرة انطلاقاً من دورها الكبير في تخفيف الضغط على المرافئ البحرية والجوية، إذ تتيح تخزين البضائع داخل البلاد إلى حين الحاجة إليها، مع إمكانية الإفراج الجمركي عنها تدريجياً حسب طلب المستورد، ما يساهم في تقليل الازدحام وخفض التكاليف الجمركية. الإفراج الجمركي هو المرحلة التي تصبح فيها البضائع “حرة” بعد استكمال جميع الإجراءات القانونية والجمركية، مثل دفع الرسوم والتأكد من مطابقة المستندات.
إضافة إلى ذلك، توفر هذه الموانئ الوقت والجهد على أصحاب المصانع والشركات، وتقلل من الاعتماد على النقل البري المكثف، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على تقليل استهلاك الوقود والازدحام المروري.
وتتجاوز أهمية الموانئ الجافة كونها بديلاً داخلياً للمرافئ البحرية، لتُشكّل ركيزة إستراتيجية في تحسين سلاسل التوريد -أي زيادة كفاءتها عبر كل مرحلة بدءاً من تصميم المنتج ومصادر المواد الخام والمكونات من خلال الإنتاج والتخزين والتوزيع وتعزيز كفاءة حركة البضائع- فهي تسهم بشكل مباشر في تخفيف الضغط عن الموانئ الساحلية، من خلال نقل العديد من العمليات اللوجستية إلى الداخل، ما ينعكس على تسريع عمليات الشحن وتقليل زمن انتظار السفن.
وتتميز الموانئ الجافة كذلك بتقليل تكاليف النقل والتخزين، إذ تتيح نقل الشحنات الكبيرة بالقطارات مثلاً، وتقلل الحاجة للتخزين طويل الأمد في المرافئ البحرية ذات التكلفة العالية، إضافة إلى دورها الكبير في تقليل الأثر البيئي عبر خفض الاعتماد على الشاحنات، وتقليل الانبعاثات من خلال تعزيز النقل عبر السكك الحديدية
إلى جانب ذلك، تفتح هذه الموانئ آفاقاً جديدة للمناطق غير الساحلية تمكّنها من الوصول إلى التجارة العالمية، وتعزز من فرص التنمية والاستثمار فيها.
اقرأ أيضاً: الموانئ السورية تدخل مرحلة جديدة.. وقود أرخص وإجراءات لتعزيز التجارة البحرية
اتفاقيات حديثة في سوريا
بعد أن تعرّفنا على مفهوم الموانئ الجافة وفوائدها، يمكننا الآن الحديث عن الخطوات التي بدأت سوريا باتخاذها في هذا المجال… ففي 25 أيار الماضي، أعلنت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية عن توقيع مذكرتي تفاهم إستراتيجيتين مع شركتين دوليتين، هما الشركة الفرنسية CMA CGM والشركة الصينية Fidi Contracting، وتهدف هذه الاتفاقيات إلى إنشاء وتشغيل موانئ جافة في ثلاث مناطق: المنطقة الحرة السورية-الأردنية المشتركة، المنطقة الحرة في عدرا بريف دمشق، والمنطقة الحرة في حسياء بمحافظة حمص.
تسعى هذه الاتفاقيات إلى تطوير البنية التحتية اللوجستية وتعزيز الدور الاقتصادي للمناطق الحرة، عبر ربطها بشبكات النقل الدولية البرية أو البحرية، بما يتيح لسوريا أن تتحول إلى مركز تجاري مهم في المنطقة، كما تفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية، وتوفر فرص عمل في مجالات النقل والخدمات، إلى جانب دعم الصادرات السورية وخفض تكاليف التخليص والتخزين على الصناعيين والتجار
وفي هذا الصدد، أشار مازن علوش، مدير العلاقات العامة في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، في تصريح إعلامي، إلى أن هذه الاتفاقيات الموقعة تشمل استثمار مساحات كبيرة داخل المناطق الحرة لإنشاء منشآت لوجستية متطورة ومتكاملة، ضمن إطار شراكة طويلة الأمد بين الدولة والمستثمرين.
ووفقاً له، تُقدّر الاستثمارات الأولية لهذه المشاريع بملايين الدولارات، مع وجود خطط مستقبلية لتوسعة الأعمال بما يتناسب مع نمو حركة التجارة والنقل في سوريا والمنطقة.
من جانبه، يرى الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي عبد الرحمن محمد، أن هذه الخطوة مهمة لتطوير البنية التحتية اللوجستية في سوريا، وهي جزء من رؤية أوسع لتعزيز الاقتصاد الوطني وتحقيق التكامل بين الموانئ البحرية والجافة.
اقرأ أيضاً: الشركة الفرنسية CMA CGM والحكومة السورية: تعاون قديم بشروط حديثة
الموانئ الجافة في سوريا
يوجد موانئ جافة عدة في سوريا، أولها الميناء الذي يقع قرب المدينة الصناعية في عدرا، على مساحة 163 ألف متر مربع، بطاقة سنوية تبلغ نحو 600 ألف حاوية نمطية، أي ما يعادل 4 إلى 6 ملايين طن من البضائع، أما الميناء الثاني فيقع ضمن المدينة الصناعية في حسياء بمحافظة حمص، وتبلغ مساحته 902.4 ألف متر مربع، ويعمل مباشرة بطاقة تحميل وتفريغ تصل إلى 10 ملايين طن سنوياً، أي ما يعادل 1.5 مليون حاوية نمطية.
ويقع المرفأ الجاف الثالث ضمن المدينة الصناعية في الشيخ نجار بحلب، على مساحة 360 ألف متر مربع وبطاقة مماثلة لحسياء، بينما يتم استثمار الميناء الرابع في منطقة السبينة بريف دمشق على مساحة تُقدّر بـ22 ألف متر مربع، وتبلغ طاقته الحالية 90 ألف حاوية نمطية سنوياً (560 ألف طن)، على أن تصل بعد التوسعة إلى 180 ألف حاوية نمطية.
أما خامس الموانئ، فيقع ضمن المنطقة الحرة في منطقة المسلمية بحلب، وهو قيد الاستثمار بطاقة تصل إلى 60 ألف حاوية نمطية، أي نحو نصف مليون طن، ومن المخطط أن يتم رفع طاقته إلى 120 ألف حاوية بعد تنفيذ التطويرات اللازمة.
جدير بالذكر أنه قبل اندلاع الحرب في سوريا، كانت المرافئ/الموانئ الجافة تطرح كحل إستراتيجي لتطوير قطاع النقل وتحسين الأداء الاقتصادي، وقد شهدت السنوات الأخيرة التي سبقت الحرب قرارات تمهّد الطريق أمام هذا النوع من البنى التحتية الحديثة، كان أبرزها مرسوم صدر في 13 أيلول 2010، جاء بتعديلات على قانون الجمارك، لتواكب التشريعات احتياجات تفعيل المرافئ الجافة.
وفي عام 2018، أعاد النظام السابق طرح فكرة التوسع في هذه المرافئ، وأعلن عزمه إنشاء أربعة مرافئ جافة جديدة في نقاط جغرافية ذات أهمية إستراتيجية، وهي دير الزور والبوكمال وقرب معبر اليعربية على حدود العراق وقرب معبر نصيب على حدود الأردن، لتكون مواقع لموانئ جافة تسهم في ربط الداخل بالمعابر الحدودية… لكن هذه المشاريع لم تبصر النور، واصطدمت بعقبات متعددة مثل التدهور الاقتصادي الحاد وتعقيدات المشهد السياسي والأمني.
ختاماً، تشكّل الموانئ الجافة إحدى الأعمدة الأساسية للنقل الحديث، ومع الخطوات الأخيرة التي بدأت في سوريا -رغم ما تتطلبه من تنسيق دولي وخبرات متخصصة- هناك أمل حقيقي بأن تشكّل نقطة تحوّل تعيد الحيوية إلى الاقتصاد وتفتح الطريق أمام فرص استثمارية وتنموية واسعة.
وبعيداً عن الجوانب الاقتصادية، سوف تحمل الموانئ الجافة تأثيرات اجتماعية وثقافية عميقة على المناطق الموجودة فيها من خلال إحداث تغييرات في سوق العمل المحلي، وخلق فرص عمل جديدة ما يرفع من مستوى المعيشة للسكان ويقلل من نسبة البطالة.