الكاتب: أحمد علي
على أرصفة الشوارع، كما على رفوف المحال، تتراصُّ البضائع المستوردة في صفوف طويلة، تتباهى بألوانها وأسعارها المنخفضة، بينما يئنّ المنتج المحلي تحت وطأة منافسة غير عادلة، تشتدّ ضراوتها يوماً بعد يوم. في بلد أنهكته الحرب، ويدفع اليوم ضريبة انفتاح اقتصادي غير مضبوط، يُطرح سؤال محوري: هل تبقى لصناعتنا الوطنية فرصة حقيقية في البقاء، أم أن السوق يكتب لها نهاية بهدوء خلف ستار «العولمة» والاتفاقيات؟! هذا المقال يفتح ملفاً حساساً طالما طُرح في الكواليس، لكنه اليوم بات ضرورة ملحة لفتح نقاش عام حول مصير المنتج الوطني في سوريا، وكيف يمكننا إنقاذه من المنتجات الأجنبية.
المنتجات الأجنبية: الإنتاج في مواجهة الإغراق
يعيش السوق السوري واقعاً مركباً، بين مساعي حكومية لتوقيع اتفاقيات اقتصادية «واعدة»، وبين تهديد واضح يواجه الصناعة الوطنية نتيجة الإغراق السلعي المتواصل. فهذه البضائع الأجنبية، التي تدخل عبر قنوات قانونية، وأخرى غير نظامية (تهريب)، تفرض واقعاً جديداً أشبه بإعلان حرب غير متكافئة على المنتجات المحلية. لا تُعرض فقط في المتاجر، بل صارت تملأ الأرصفة وبسطات الشوارع، بجودة متدنية وأسعار مغرية تفتك بالمنافسة الشريفة. والنتيجة: حالة من الإغراق باتت اليوم أكثر فتكاً بغياب أدوات الحماية، وتواطؤ بعض التجار وضعف الرقابة.
تساؤلات مشروعة: أين ذهب القطاع العام الصناعي؟
ضمن هذا السياق، تزايدت في الآونة الأخيرة علامات الاستفهام حول اختفاء منتجات القطاع العام من الأسواق، حتى بات المواطن يسأل: لماذا لم نعد نرى إنتاج الدولة في رفوف المحال؟!
في إجابته على ذلك، قال المهندس محمد بكر، عضو جمعية العلوم الاقتصادية، إن هذا التراجع ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات تعود لسنوات. فالكثير من الشركات العامة تضررت خلال سنوات الحرب، وبعضها دُمّر كلياً أو جزئياً. وحتى تلك التي ظلت تعمل في أصعب ظروف الحرب، توقفت فجأة بعد التحرير، بسبب غياب التمويل، تقادم الآلات، وصعوبة تأمين مستلزمات التشغيل.
الأخطر من ذلك برأيه، أن هذه الشركات لم تعد تمتلك مرجعية قانونية أو تمويلية، ولا حتى آلية واضحة للبيع أو الشراء، ما جعل اختفاءها من السوق أمراً محتوماً.
ضرورة الهيكلة: إنقاذ ما يمكن إنقاذه
ورغم هذا الواقع القاسي، يؤكد «بكر» أن القطاع العام ما زال ضرورة وطنية. ولكن لا بد من إعادة هيكلته، بما يشمل: استقدام إدارات كفوءة وبيئة تشريعية واضحة تتيح البيع والشراء بحرية ومسؤولية، وتمويل حقيقي لتجديد خطوط الإنتاج، بالإضافة إلى التخلص من العمالة الفائضة وتحقيق التوازن المالي.
ورغم أزمات القطاع العام، إلا أنه لا يزال ملتزماً بالمواصفات القياسية، ويدفع الضرائب والرسوم بانتظام، ويلعب دوراً حاسماً في ضبط الأسعار ومنع الاحتكار على حد قول بكر.
القطاع الخاص في قلب المواجهة
من جهة أخرى، يرى أدهم طباع، عضو مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها، أن الحل لا يكون فقط بترميم القطاع العام، بل أيضاً بدعم القطاع الخاص وتحويله إلى قوة إنتاجية منافسة. ففي ظل الانفتاح الاقتصادي الحاصل، يصبح المطلوب حماية المنتج الوطني عبر: دعم مباشر للصناعات الصغيرة والمتوسطة – تسهيلات ضريبية وقروض منخفضة الفائدة – إنشاء صناديق خاصة لدعم الإنتاج المحلي – تعزيز الابتكار والتطوير المهني للعاملين وفق ما يرى طبّاع.
وبهذه الأدوات فقط، يمكن أن يُخلق منتج سوري قادر على الوقوف في وجه نظيره الأجنبي لا من خلال «حماية زائفة»، بل بقوة الجودة والسعر المناسب.
الترويج والتوعية: سلاحان منسيان
المعركة لا تدار فقط في المصانع والمخازن، بل أيضاً في عقول المستهلكين. فبحسب «طباع»، من الضروري الترويج للمنتجات المحلية من خلال: حملات إعلامية لتشجيع الاستهلاك المحلي – المشاركة في المعارض المحلية والدولية – فرض قوانين تُراعي المنتجات السورية في العقود الحكومية – فرض رسوم إغراق على المنتجات المستوردة التي تهدد الصناعة الوطنية.
لكن كل هذه المقترحات تبقى حبيسة الأدراج ما لم تُحلّ معضلة الطاقة. فالصناعة تحتاج إلى كهرباء ومازوت بأسعار تنافسية. وفي هذا السياق، يشير «طباع» إلى أرقام صادمة: سعر الكيلوواط الكهربائي في سوريا حوالي ٢٣٥٠ ليرة (25 سنتاً)، بينما في مصر ٣ سنتات فقط، وفي تركيا والأردن حوالي ١٠ سنتات.
أما أسعار المازوت والفيول فهي الأعلى مقارنة بدول الجوار، ما يجعل الكلفة التشغيلية في سوريا خانقة ولا تسمح بأي منافسة عادلة.
بوابة الاستيراد: هل نحن نحرسها فعلاً؟
ليست المشكلة فقط في الإنتاج، بل أيضاً في غياب الرقابة على المواد المستوردة. فالكثير من المنتجات، خاصة الألبسة والأقمشة، تدخل البلاد دون أن تمر بفحوصات مطابقة للمواصفات. ما يعني أن بعضها قد يحمل مواد كيميائية مسرطنة أو ضارة، وخصوصاً تلك المخصصة للأطفال.
إضافة إلى ذلك، لا يُفرض أي رسم إغراق على المنتجات القادمة من دول تقدم دعماً لمصدريها (مثل الصين وتركيا ومصر)، ما يجعل المنافسة غير متوازنة. فالحماية لا تعني الانغلاق، ولا تعني خنق السوق بالبضائع الرديئة المحلية. بل تعني -وفق ما يرى البعض- خلق توازن عادل بين المستورد والمحلي، بحيث نمنح المنتج السوري فرصة عادلة للتطور، لا ميزة مطلقة تبقيه على قيد الحياة اصطناعياً.
لذلك، ينصح بأن تكون الإستراتيجية قائمة على: حماية ذكية ومدروسة – رقابة صارمة على التهريب – دعم الصناعات الناشئة – ضبط منافذ البيع – إصلاح جذري في البنية التشريعية.
ختاماً، ما يجري في السوق السورية الآن ليس مجرد منافسة حرة، بل هو نزيف منظم للمنتج المحلي، تشارك فيه عوامل داخلية وخارجية، ومصالح تتقاطع فيها قلة الرقابة مع جشع البعض، وسوء التخطيط مع فوضى السوق. لذلك، السؤال الذي بدأنا به يعود أكثر إلحاحاً: هل نريد أن يكون لسوريا اقتصاد منتج فعلاً، أم نكتفي بأن نكون سوقاً لبضائع الآخرين؟ يبدو أن الخيار ليس بيد الحكومة وحدها، بل بيد كل من يعنيه مصير هذا البلد.
اقرأ أيضاً: الثروة الحيوانية في سوريا.. كنز يتآكل في صمت!