في مرحلة دقيقة من تاريخ سوريا الحديث، يقف القطاع المصرفي، الذي يعد شريان الاقتصاد، على عتبة تحول جذري، فبين إعلانات حكومية عن خطط إصلاح شاملة طال انتظارها، وواقع اقتصادي يعاني من أزمات متراكمة، تتأرجح آمال السوريين بين التفاؤل الحذر والتشكيك في القدرة على تجاوز عقود من العزلة والتشوهات البنيوية.
فالأزمة لم تعد مجرد أرقاماً في تقارير اقتصادية، بل أصبحت واقعاً يومياً يثقل كاهل المواطنين، تجسده الطوابير الطويلة أمام الصرافات الآلية، ويختصره سؤال مصيري عن مستقبل المال والأعمال في بلد يسعى جاهداً للنهوض من تحت ركام الحرب والعقوبات.
وفي هذا السياق، جاءت تصريحات وزير المالية محمد يسر برنية، التي لم تكن مجرد إعلان روتيني، بل أشبه باعتراف صريح بأن سفينة المصارف الحكومية لم تعد قادرة على الإبحار بسلام.
وعبر حسابه الرسمي، أكد برنية أن الحكومة غير راضية إطلاقاً عن أداء هذه المصارف، مع تفهمها للإرث الثقيل من الفساد والتشوهات الذي ورثته عن النظام البائد.
هذا الإقرار بالواقع، الذي تجنبت الحكومات السابقة الخوض فيه، فتح الباب أمام وعود بإطلاق خطة إصلاح شاملة وعميقة، بالتعاون مع مصرف سوريا المركزي والأجهزة الرقابية، بهدف تحديث البنوك وتعزيز قدرتها التنافسية ودورها في دعم التنمية.
ويأتي هذا التحرك في وقت تتكثف فيه المباحثات مع صندوق النقد الدولي، الذي أبدى استعداده لدعم جهود إعادة تأهيل الاقتصاد السوري، مما يبشر بتحول استراتيجي في إدارة الملف المالي للبلاد.
إصلاحات حكومية في المصارف السورية طال انتظارها
تتجاوز خطط الإصلاح مجرد الإطار المحلي الذي طرحه وزير المالية، لتتقاطع مع رؤية أوسع كشف عنها حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، الذي ربط بشكل مباشر بين الإصلاحات وبين رفع وتخفيف العقوبات الأمريكية والأوروبية.
وتبدو خارطة الطريق التي قدمها حصرية وكأنها استجابة مباشرة لفرصة تاريخية، حيث يرى أن التحول في السياسة الدولية تجاه سوريا بمثابة نافذة ذهبية لإعادة دمج البلاد في النظام المالي العالمي.
وتقوم خطته على ثلاث ركائز أساسية بعد رفع العقوبات رسميًا: استعادة قنوات التحويل المالي، وجذب الودائع الأجنبية، وإعادة دمج النظام المصرفي السوري في شبكات الدفع العالمية.
وتتضمن ملامح هذه الخطة تحديثًا جذريًا للسياسة النقدية، بالانتقال من التدخلات قصيرة الأجل إلى سياسة قائمة على القواعد، واعتماد نظام “استهداف التضخم” مدعومًا باستقلالية حقيقية للبنك المركزي.
ويرى حصرية، وهو خبير تكنوقراطي يتمتع بخبرة دولية، أن استقرار سعر الصرف لم يعد رفاهية بل ضرورة قصوى لوقف التشوهات الاقتصادية واستعادة ثقة المستثمرين.
والأهم من ذلك، يطمح إلى تحويل المصارف السورية من مجرد “خزائن لحفظ الودائع” إلى محركات فاعلة للإقراض والاستثمار، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة شاملة، وتعزيز معايير كفاية رأس المال، وتحسين الحوكمة، وتوجيه التمويل نحو المشاريع الإنتاجية التي تحتاجها البلاد بشدة، لا سيما في قطاعي البنية التحتية والقطاع الخاص.
وتتطلب هذه الرؤية مراجعة شاملة للقوانين المصرفية، وتحديث تشريعات الإقراض والتمويل الإسلامي، وتعزيز أطر مكافحة غسل الأموال.
اقرأ أيضاً: ثلث بضائع الأسواق السورية “سم في الدسم”: كيف يشتري المواطن الخطر بماله؟
البنية المتأزمة للقطاع المصرفي الحكومي
يقوم هذا الواقع المصرفي المتأزم على بنية تحتية قديمة تهيمن عليها ستة مصارف رئيسية مملوكة للدولة، تشكل العمود الفقري للقطاع.
ويتصدر هذه المجموعة المصرف التجاري السوري، الذي تأسس عام 1966 ويستحوذ وحده على ما يقارب 80% من إجمالي النشاط المصرفي في البلاد، مما يجعله اللاعب الأكبر بلا منازع.
وإلى جانبه، تعمل مصارف متخصصة ذات تاريخ عريق، مثل المصرف الزراعي التعاوني الذي تعود جذوره إلى عام 1888 وكان له دور حيوي في تنمية الريف، بالإضافة إلى المصرف الصناعي المخصص لتمويل الصناعة، والمصرف العقاري الداعم للحركة العمرانية.
وتكتمل المنظومة بـمصرف التسليف الشعبي الموجه لذوي الدخل المحدود والأنشطة الصغيرة، ومصرف التوفير الذي تطور من دوره في استيعاب المدخرات ليقدم خدمات مصرفية أوسع.
ورغم أدوارها الحيوية تاريخيًا، إلا أن هذه المؤسسات عملت لعقود كأذرع تنفيذية للسياسات الحكومية أكثر من كونها بنوكًا تجارية حديثة، وهو ما يفسر جزءًا كبيرًا من التحديات الهيكلية التي تواجهها اليوم.
ما بين طوابير الصرافات وعودة “سويفت”.. واقع مرير وآمال بالانتعاش
بينما تصاغ الخطط الطموحة في المكاتب الحكومية، يعيش المواطن السوري واقعًا مختلفًا تمامًا.
وتتجسد أزمة شح السيولة النقدية في مشاهد يومية باتت مألوفة، حيث يصطف الموظفون والمتقاعدون لساعات طويلة أمام الصرافات الآلية، ليحصلوا في كثير من الأحيان على الفتات من رواتبهم التي لا تتجاوز سقوف السحب اليومية المنخفضة، والمحددة بـ 200 ألف ليرة سورية.
ويقول جمال، وهو موظف حكومي في دمشق، إنه يضطر أحيانًا لأخذ إجازة ليوم كامل فقط لمحاولة استلام جزء من راتبه.
وتشير التقديرات إلى أن السوق تحتاج يومياً لنحو 120 مليار ليرة سورية، بينما لا يتم ضخ سوى أقل من عُشر هذا المبلغ، ما يعكس حجم الانهيار، ويعزو الخبراء ذلك إلى توقف طباعة العملة محليًا والاعتماد على الاستيراد المحدود من روسيا.
وهذا الواقع المرير يقابله بصيص أمل تمثل في الإعلان عن عودة سوريا التدريجية إلى نظام “سويفت” للمدفوعات الدولية بعد 14 عامًا من العزلة.
وقد أكد حاكم المصرف المركزي نجاح أول عملية تحويل تجاري دولي من بنك سوري إلى بنك إيطالي، معتبرًا أن “الباب أصبح الآن مفتوحًا” لمزيد من هذه المعاملات.
وهذا الإنجاز، إن اكتمل، سيشكل نقلة نوعية للاقتصاد، إذ سيساهم في تشجيع التجارة الخارجية، وخفض تكاليف الاستيراد، وتسهيل الصادرات، والأهم من ذلك، إعادة توجيه التحويلات المالية من السوق السوداء، التي كانت تقتطع نسبًا باهظة، إلى القنوات المصرفية الرسمية، مما يعزز الثقة والشفافية.
اقرأ أيضاً: الإنتاج والدولرة والفساد… آراء حول الاقتصاد السوري بعيون الخبير جورج خزام
تحديات هيكلية وثقة مفقودة.. معركة الإصلاح بعيون الخبراء
على الرغم من الخطوات الإيجابية، يجمع الخبراء على أن الطريق لا يزال طويلاً وشائكًا.
ويرى الدكتور عبد الرزاق حساني، الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، أن أسباب تراجع القطاع المصرفي أعمق من مجرد العقوبات الخارجية، فهي متجذرة في عوامل داخلية مثل ضعف الإدارة والخبرة، وهيمنة “العقلية الحكومية”، واستخدام برمجيات قديمة، فضلًا عن محدودية رؤوس أموال معظم المصارف التي تعرقل تمويل المشاريع الكبرى.
ويشير حساني إلى ملف الفساد الإداري والمالي، خاصة في القروض المتعثرة التي منحت لمتنفذين، كأحد الجروح الغائرة في جسد هذا القطاع.
أما قضية الثقة، فتبدو التحدي الأكبر، فالمواطن العادي فقد ثقته بالمصارف بسبب القيود المفروضة على سحب أمواله، بينما يظل المستثمر الأجنبي أو السوري في الخارج مترددًا بسبب العقوبات.
ويحذر حساني من أن أي محاولة للتحايل على العقوبات قد تأتي بنتائج عكسية.
وبدوره، يضيف الباحث يونس الكريم، مدير منصة “اقتصادي”، عوائق أخرى لا تقل أهمية، تشمل انهيار القدرة الشرائية، وعدم وضوح السياسة المالية للبنك المركزي، وغياب الاستقرار الأمني والاقتصادي اللازم لجذب أي استثمار حقيقي.
هذه المخاوف يتردد صداها في الشارع، حيث يرى المواطن فادي أنجو أن رفع العقوبات ضروري، لكنه يطالب الحكومة بالاستماع للمستثمرين ومعالجة نقص الخبرات في الكوادر المصرفية، بينما يؤكد محمد عبد المجيد، العامل في التجارة، أن “الشعب هو من يدفع الثمن في النهاية”.
وفي خضم هذه التحديات، بدأت بعض الدول مثل بريطانيا برفع كيانات سورية، بما فيها البنك المركزي، من قوائم عقوباتها، وقدمت دول خليجية دعمًا ماليًا ولوجستيًا.
ومع بدء المحادثات مع المؤسسات المالية الدولية، والبحث في إصدار صكوك إسلامية لأول مرة، ترسم الحكومة مسارًا جديدًا.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستكون هذه الخطط، مدعومة بالانفتاح الدولي التدريجي، كافية لإعادة بناء الثقة المفقودة وتحويل المصارف من عبء على الدولة إلى قاطرة حقيقية للاقتصاد السوري المتعطش للتعافي؟