مقالات

المسارات الاستراتيجية لبناء سوريا الجديدة: من إدارة الأزمات إلى هندسة المستقبل

مقال رأي: الدكتور مشهور سلامة – المسارات الاستراتيجية لبناء سوريا الجديدة: من إدارة الأزمات إلى هندسة المستقبل

تمرّ سوريا بمنعطف تاريخي حاسم، حيث لم يعد الحديث عن إنهاء الحرب مجرداً، بل المطلوب هو تأسيس «سورية الجديدة» بنقلة نوعية من منطق ردود الأفعال إلى منطق استباقي يهندس المستقبل. هذه النقلة لا تتحقق إلا عبر رؤية متكاملة تتعامل مع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية كحزمة غير قابلة للتجزئة.

المسار السياسي لبناء سوريا الجديدة: الإصلاح المؤسسي أساس الاستقرار
الإصلاح السياسي يظل حجر الزاوية لأي بناء حقيقي للدولة. فالدولة التي تفتقر إلى المشاركة الفاعلة للمواطنين، وإلى نظام واضح لتوزيع السلطات وتحقيق المساءلة، تبقى هشة ومعرّضة للأزمات الدورية. التحدي يكمن في إعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن على أساس متين من المواطنة الكاملة والمتساوية في الحقوق. بذلك تُبنى شرعية جديدة نابعة من القوة والثقة لا من ضعف الحاجة، وتجعل أي انفتاح على العالم خياراً استراتيجياً.

المسار الاقتصادي: كسر حلقة الفساد والهشاشة
الاقتصاد هو قاطرة التنمية المنشودة، لكنه مثقل بتركة الحرب وانهيار البنية التحتية والعقوبات. ورغم ضخامة التحديات، تبقى الفرص قائمة عبر دعم القطاعات الإنتاجية، والمشاريع الصغيرة والمتوسطة. الخطر الحقيقي لا يكمن في غياب الأفكار أو المشاريع، بل في «حلقة الفساد المفرغة» التي تلتهم العوائد بسبب ضعف الشفافية. النمو الكمي دون عدالة في التوزيع سيعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية، ويجعل الاقتصاد هشاً أمام أي صدمات مستقبلية. الهدف يجب أن يكون بناء اقتصاد مرن، قادر على التكيف، يقوده الكفاءة والنزاهة لا الريع والمحسوبيات.

المسار المجتمعي: التعليم من التلقين إلى إنتاج المعرفة
لا يمكن الحديث عن مستقبل مزهر من دون استثمار جذري في رأس المال البشري. المدارس والجامعات توسعت كمّياً وأدت إلى تضخم في الشهادات، لكن دون تحسن نوعي حقيقي. الإصلاحات الجزئية لن تجدي. المطلوب ثورة تعليمية شاملة تطال فلسفة التعليم ذاتها، بتحديث المناهج وربطها بمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، واستبدال ثقافة التلقين بمنظومة تعزز التفكير النقدي والإبداع والقيم المدنية. الشعب المتعلم الواعي هو خط الدفاع الأفضل عن مشروع الوطن.

المسار التكنولوجي: التحول الرقمي أداة للتحديث
التحول الرقمي يمكن أن يكون محفزاً سريعاً لعملية البناء، عبر تقليص البيروقراطية وتعزيز الكفاءة في الإدارة والإنتاج والخدمات. لكن في ظل ضعف البنية التحتية، فإن أي «تفوق تكنولوجي» سابق لأوانه يبدو وهماً. التحدي الحقيقي هو الانتقال الذكي التدريجي من الاستهلاك والاعتماد على التكنولوجيا المستوردة إلى بناء قاعدة محلية للابتكار، ما يخلق فرص عمل ويضمن تحقيق سيادة تكنولوجية على المدى البعيد.

الخاتمة: رؤية شاملة نحو المستقبل
بناء سوريا الجديدة هو عملية مركبة لا تقبل القفز على أي من المراحل. الإصلاح السياسي يخلق بيئة آمنة للاستثمار والاقتصاد العادل، التعليم المتطور ينتج جيلاً من المبتكرين القادرين على قيادة التحول التكنولوجي. النجاح يتوقف على إرادة سياسية جادة تتبنى هذه الرؤية الشاملة وتعمل على تنفيذها بخطى ثابتة، لأن البديل هو البقاء في دوامة الأزمات التي لا تنتهي.

دمشق – 24 أيلول 2025

اقرأ أيضاً: حين توقفت الرشاوى… تعطّلت الدولة!

————————————————————————————————————

تنويه
يفتح موقع «سوريا اليوم 24» صفحاته لكل من يحمل رأياً ويرغب في التعبير عنه بحرّية ومسؤولية، إيماناً منا بأن الحوار هو السبيل الأمثل لفهم الواقع وصياغة المستقبل. نحن نُجري لقاءاتنا مع ضيوف من مشارب فكرية وسياسية متعددة، نستمع إليهم ونعرض ما لديهم بأمانة وموضوعية، وننقل الآراء المختلفة من مصادر متعددة. ولكن نشرنا لآرائهم لا يعني بالضرورة تبنّيها، بل يأتي في إطار رسالتنا الهادفة إلى ترسيخ ثقافة الحوار وتبادل الرؤى في فضاء من الاحترام والانفتاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى