الكاتب: أحمد علي
بعد مرور أكثر من نصف عام على سقوط سلطة الأسد في سوريا، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة صياغة العقد الإداري والسياسي في البلاد، بما يضمن الانتقال إلى دولة حديثة تحترم القانون والدستور، وتُحقق التوازن بين الحقوق والواجبات لجميع مكوناتها. وبينما تتعدّد الطروحات حول شكل الإدارة الأنسب للمرحلة المقبلة، تتباين الآراء حول المركزية واللامركزية، في ظل واقع معقّد يتسم بتنوّع ديني وعرقي، وتركة ثقيلة من الانقسام والشتات.. فما الحل وما العمل؟ وأيهما الأجدى لسوريا في زمن اليوم؟ هنا تجدون المعاني والآراء والمخاوف.. وربما الحلول!
المركزية واللامركزية..
منذ لحظة انهيار سلطة بشار الأسد، تعالت الأصوات داخل سوريا مطالبة بتبني نموذج حكم لامركزي، باعتباره بديلاً عن النظام المركزي الذي عجز، وفق كثيرين، عن تحقيق العدالة والفعالية في إدارة الدولة ومؤسساتها. إلا أن هذه الدعوات لم تلقَ إجماعاً، إذ عبّرت الحكومة السورية الحالية وبعض القوى الوطنية عن تحفظها حيال تطبيق اللامركزية في الوقت الحالي، خشية أن تتحول إلى أداة لتفتيت البلاد وتغذية مشاريع الانفصال.
وفي حديثه لوسائل الإعلام حول الأمر، اعتبر الدكتور يحيى العريضي، الأكاديمي والمعارض السوري المعروف، أن البلاد بحاجة إلى نموذج لامركزي إداري، حتى لو كان موسّعاً، في ظل واقع ما بعد الحرب. ويرى أن «السنوات الماضية من التشظي والتهجير والنزاعات الطائفية والعرقية تجعل من اللامركزية الإدارية وسيلة فعالة لمعالجة هذا الإرث المعقّد»، مضيفاً أن اعتماد صيغة تشريعية مزدوجة قائمة على مجلسَي نواب وشيوخ قد تكون خطوة ناجعة لتعزيز التمثيل والشرعية على حد قوله.
وحذر العريضي من اللامركزية السياسية، معتبراً أن تطبيقها في سوريا قد يخدم أجندات خارجية تسعى إلى تقسيم البلاد بشكل رسمي، عبر تعزيز الانقسامات وإضعاف المركز السياسي.
نموذج محلي مرن وانتخابي
بدوره، يعبّر علاء الأصفري، المحلل السياسي المقيم في دمشق، عن دعم مشروط للامركزية، داعياً إلى تطوير قانون إدارة محلية يمنح المجالس المنتخبة صلاحيات واسعة. ويشدّد على ضرورة بناء جسور ثقة بين تلك المجالس والحكومة المركزية في دمشق، محذراً في الوقت ذاته من ترك اللامركزية تتحول إلى حاضنة لتغذية النزعات الانفصالية.
ويرى الأصفري أن تمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها، في إطار وطني جامع، سيكون حافزاً لكافة المكونات السورية لاحتضان هذا النموذج، بدلاً من الانكفاء أو التمرد عليه.
حماية للوحدة أم وصفة للجمود؟
في المقابل، يُحاجج صدر الدين اليافي، المحلل السياسي السوري، بأن النظام المركزي لا يزال الخيار الأنسب في هذه المرحلة. ويعتبر في حديث له إلى أن حكومة مركزية واحدة قادرة على توحيد القرار السياسي، وضمان التوازن في عملية إعادة الإعمار وتوزيع الموارد والخدمات.
ويضيف أن التنسيق المركزي يمنع تكرار التجارب الموازية التي قد تؤدي إلى ازدواجية في السلطات أو تناقض في الرؤى، لا سيما في ملفات حساسة مثل الأمن والاقتصاد والسياسة الخارجية. لكنه يقرّ في الوقت ذاته بوجود تحديات، أبرزها خطر تركّز السلطة وما يرافقه من فساد أو قصور في الاستجابة للاحتياجات المحلية.
ما هي اللامركزية السياسية؟
اللامركزية السياسية تُعدّ من أكثر الصيغ حساسية في أنظمة الحكم، كونها تتجاوز مجرد توزيع المهام الإدارية إلى منح الوحدات المحلية سلطات دستورية وتشريعية كاملة أو جزئية. في هذا النموذج، قد تمتلك الأقاليم صلاحيات تشكيل برلمانات محلية، وإدارة قوى أمنية، بل وحتى توقيع اتفاقات محدودة مع جهات خارجية. ورغم أن هذا النموذج معمول به في بعض الدول المستقرة التي تتمتع بمؤسسات ديمقراطية راسخة، إلا أنه يُعد محفوفاً بالمخاطر في السياقات الهشّة أو الخارجة من صراعات، كالحالة السورية.
تجارب دول مثل العراق بعد 2003، أو ليبيا بعد الثورة، أظهرت أن منح صلاحيات سياسية واسعة للأقاليم أو المكونات يمكن أن يتحوّل من وسيلة لتنظيم التنوع إلى مدخل لتكريس الانقسام. ففي العراق، أدت الفيدرالية الفعلية التي طُبقت في إقليم كردستان إلى خطوات نحو الانفصال، بينما أسفر غياب مركز موحّد في ليبيا إلى نشوء سلطات متنافسة ومناطق نفوذ. وحتى في نماذج تاريخية كيوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي، كان تأطير الصلاحيات السياسية على أسس قومية سبباً مباشراً في انهيار الدول عند أول هزّة داخلية. لذلك، فإن الحديث عن اللامركزية السياسية في سوريا ما بعد الثورة لا بد أن يقترن بضمانات سيادية صارمة وتوافق وطني واسع، حتى لا تتحول إلى وصفة قانونية لتفكيك الدولة.
ما هي اللامركزية الإدارية؟
بخلاف اللامركزية السياسية، تُعدّ اللامركزية الإدارية صيغة مرنة وأكثر أماناً في إدارة التنوع، إذ تتيح نقل بعض الصلاحيات التنفيذية من السلطة المركزية إلى السلطات المحلية، من دون المساس بسيادة الدولة أو وحدة تشريعاتها. في هذا النموذج، تبقى السلطة التشريعية والقانونية موحّدة على المستوى الوطني، بينما تتولّى الجهات المحلية تنفيذ السياسات وتقديم الخدمات المباشرة للمواطنين.
هذا الشكل من اللامركزية معمول به في عدد كبير من الدول الديمقراطية الحديثة، كفرنسا والهند وإسبانيا، حيث تتمتع البلديات والأقاليم المحلية بسلطات واسعة في مجالات مثل النقل، والتعليم، والتخطيط العمراني، والتنمية. لكنه لا يمنحها الحق في اتخاذ قرارات سيادية منفصلة. وهنا تبرز مزاياه: فهو يعزز الكفاءة والشفافية، ويقرّب المواطن من عملية اتخاذ القرار، ويقلل من البيروقراطية، دون تهديد وحدة الدولة. وفي سوريا الجديدة، يمكن لهذا النموذج -بحال التوافق عليه- أن يكون أداة ناجعة لمعالجة التهميش الجغرافي، وتعزيز المشاركة المجتمعية، وتوزيع الموارد بعدالة، دون خلق كيانات موازية للسلطة المركزية.
ما هي الفيدرالية وما الفرق بينها وبين اللامركزية؟!
الفيدرالية هي نظام دستوري يتكوّن بموجبه كيان الدولة من عدة وحدات سياسية (ولايات، أقاليم، جمهوريات) تتمتع بسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة، وتُقر في دستور البلاد بصفتها جزءاً من الدولة الاتحادية. كل وحدة في النظام الفيدرالي لها قوانينها الخاصة وبرلمانها وحكومتها، لكن تظل هناك حكومة اتحادية تملك سلطات سيادية في مجالات مثل الدفاع والسياسة الخارجية والعملة.
الفرق الأساسي بين الفيدرالية واللامركزية يكمن في الأصل الدستوري والتوازن بين المركز والأقاليم. ففي حين تُبنى الفيدرالية على تعاقد دستوري بين المكونات، حيث تسبق بعض الأقاليم وجود الدولة المركزية كما في الولايات المتحدة وألمانيا، فإن اللامركزية – سواء الإدارية أو حتى السياسية – تأتي كخيار تنظيمي داخل دولة موحدة دستورياً.
في السياق السوري، لا تُعدّ الفيدرالية نموذجاً مناسباً حالياً كما يرى البعض، بسبب هشاشة البنية الوطنية، والخشية من أن تتحول الصيغة الفيدرالية إلى خطوة أولى نحو التقسيم الفعلي، خاصة في ظل التدخلات الإقليمية والدولية. أما اللامركزية الإدارية، فهي تمنح صلاحيات واسعة دون أن تُهدد وحدة الدولة أو تفتح الباب لمشاريع انفصالية، ولهذا فهي قد تكون خياراً مناسباً للواقع السوري الحالي.
توازن ممكن في المرحلة المقبلة؟
ختاماً، لا شك أنه هناك انقسام بين السوريين اليوم على هذه المصطلحات والمشاريع والمفاهيم، لذلك، وأمام هذا الانقسام في الآراء، ربما تبرز الحاجة إلى صيغة وسطية تدمج ما بين المركزية واللامركزية، تراعي خصوصية المرحلة الانتقالية وتضمن مشاركة واسعة لجميع السوريين في إعادة بناء دولتهم. فبين نموذج لامركزي إداري مرن، ونظام مركزي أكثر تطوراً من سابقه، يمكن لسوريا أن تتلمّس طريقها نحو عقد اجتماعي جديد، يعيد الثقة بين المواطن والدولة، وينأى بالبلاد عن الوقوع مجدداً في فخ الاستبداد أو الفوضى، ويكتب باتفاق السوريين أنفسهم بين بعضهم دون أي تدخل خارجي.
اقرأ أيضاً: الجفاف يهدد الزراعة والأمن الغذائي.. كيف نواجه كوارث الطبيعة؟!