الكرز السوري: عناقيدٌ من ياقوت صمدت لسنين… فهل تصمد أكثر؟

إعداد: لمى ابراهيم

«عشرة تعب، وعشرة ذهب، وعشرة حطب» هكذا يصف مزارعو الكرز السوري مواسمهم، إذ تتطلب عشر سنوات من العناية والصبر، تليها عشر سنوات من الإنتاج الوفير، ثم عشر سنوات من الانحدار.

شهدت هذه الزراعة التي تعطينا ثماراً شهية بطعم لا يشبه سواها صموداً قوياً رغم تحديات الزمن، ولكن هل ستتمكن من الصمود أكثر؟ في هذا المقال سنتعرف على مناطق زراعتها في سوريا، وتقلّبات إنتاجها عبر الزمن، والتحديات التي تهدد مستقبلها.

الكرز بين الصعود والهبوط

احتلت سوريا المرتبة الأولى عربياً والثامنة عالمياً في زراعة الكرز، وفقاً لإحصاءات منظمة الفاو في عام 2019، وقد ساهمت في إنتاج أكثر من 4% من إجمالي الكرز في العالم.

وقد شهدت هذه الزراعة نمواً ملحوظاً بين عامي 2008 و2012، إذ ارتفع الإنتاج من نحو 48 ألف طن في 2008 ليصل إلى ذروته في 2012 بإنتاج بلغ 82,341 طناً، وهو أعلى مستوى تم تسجيله في تاريخ البلاد.

لكن بعد 2012، ومع بداية الحرب في سوريا، دخل الإنتاج مرحلة من التقلبات متأثراً بالوضع الأمني والاقتصادي، إذ تراوح بين 54 و76 ألف طن سنوياً حتى عام 2019.

وفي عامي 2020 و2021، واجه تراجعاً حاداً بسبب التغيرات المناخية وغياب الدعم الزراعي، ليسجل أدنى مستوياته عند حوالي 42 ألف طن في 2020، لكن في عام 2022 انتعش وارتفع بنسبة 61.3% ليصل إلى 71,546 طناً، بحسب الهيئة العامة للإحصاء.

اقرأ أيضاً: موسم الحمضيات في سوريا.. بين تباين الأرقام وانتعاش الأسواق الخارجية!

مناطق زراعة الكرز في سوريا

تنتشر أشجار الكرز في مناطق كثيرة من البلاد لكنها تشتهر أكثر في دمشق وإدلب، كما تنتشر في جبال الساحل، السويداء، وجبال حماة وحمص.

ريف دمشق

تمثل زراعة الكرز في ريف دمشق حوالي 70% من المساحة المزروعة، وتساهم بأكثر من نصف الإنتاج السوري بنسبة 55.4%.

وتنتشر في مناطق عدة من المحافظة مثل سرغايا والزبداني، ومناطق القلمون مثل رنكوس ويبرود. ويوجد في المحافظة حوالي 6 ملايين شجرة كرز، منها 3 ملايين مثمرة، تنتج سنوياً نحو 47 ألف طن، يتركز معظمها في منطقتي القلمون والزبداني.

شهدت زراعة الكرز في القلمون توسعاً كبيراً منذ أواخر الثمانينيات، وهي تضم اليوم حوالي 1.9 مليون شجرة، وتشتهر هذه المنطقة بزراعة الكرز القلموني الذي يعدّ من أجود أنواع الكرز في سوريا، بقساوته المميزة ولونه وحجمه، ويعود ذلك إلى اعتماد المزارعين في زراعتهم على الأسمدة العضوية ومياه الأمطار دون استخدام المبيدات الكيميائية، ما يجعله مرغوباً محلياً ومصدراً مرغوباً في الأسواق الخارجية.

تتنوع أصناف الكرز في القلمون ومن أبرزها أبو خط، الفرعوني، النواري، الطلياني، وقلب الطير.

شهد الموسم في القلمون هذا العام انهياراً حاداً في الإنتاج وصل إلى نحو 80% أقل من الموسم السابق، فلم يتجاوز إنتاجه ألفي طن فقط، مقارنة بعشرة آلاف طن في العام الماضي، وذلك بسبب الجفاف الشديد وقلة الأمطار، إضافة إلى موجات الصقيع القاسية التي ضربت الأشجار في نيسان الماضي… ونتيجة لذلك، ارتفع سعر كيلو الكرز من النوع الأول إلى 25 ألف ليرة سورية، وهو سعر يفوق قدرة معظم السكان.

أما في بلدة قارة -تابعة للقلمون-، فقد بدأت زراعة الكرز بخطوات بسيطة عام 1976، ثم ازدهرت بين عامي 1990 و2010.. وتنتشر في قارة حوالي 6 آلاف هكتار من الأراضي المشجرة، فيها حوالي مليون و250 ألف شجرة كرز، ومنها مليون شجرة مثمرة، بإنتاج سنوي يتراوح بين 5 و6 آلاف طن.

قبل اندلاع الحرب، كان إنتاج البلدة من الكرز يصل إلى حوالي 3600 طن سنوياً، إلا أنه تراجع إلى حوالي 2000 طن بعد تعرّض أراضي المزارعين لعمليات تخريب.

وفي سرغايا تتنوع أصناف الكرز مثل نابليون وقوس قزح والعجمي، والتي تحظى بطلب كبير في الأسواق الخارجية، خاصةً في دول الخليج حيث يصدّر إليها جزء كبير من الإنتاج… وفي عام 2023، كان الموسم مبشراً بإنتاج وفير، إذ وصلت كمية المحصول إلى حوالي 22 ألف طن من مساحة 11 ألف دونم، منها 2 ألف دونم بعل والباقي مروي.

نقلاً عن أحد مزارعي الكرز في سرغايا: “إنه عندما حاولت السلطة السابقة زيادة ضغوطها ورفع الأتاوات في إحدى السنوات السابقة، هدّد المزارعون بترك الكرز في الأرض وعدم جنيه”.

إدلب

تأتي إدلب في المرتبة الثانية بعد ريف دمشق، إذ تشكل 19% من الأراضي المزروعة وتنتج حوالي ربع كمية الكرز في سوريا بنسبة 26.4%، وتشتهر زراعة الكرز والمحلب في مناطق عدة من المحافظة أبرزها منطقتي أريحا وجبل الزاوية.

ظهرت زراعة الكرز في أريحا في خمسينيات القرن الماضي، وسرعان ما نمت وازدهرت، حتى أصبحت من أبرز الزراعات في المنطقة.

أما كرز جبل الزاوية فيعدّ من ألذّ وأجود أنواع الكرز في العالم، بشهادة عشّاقه داخل سوريا وخارجها… ويعود تاريخ زراعته في جبل الزاوية إلى خمسينيات القرن الماضي، حين نجحت تجربة زراعته لأول مرة وانتشرت بسرعة، ويقال أيضاً ان هناك وثائق عثمانية قديمة تشير إلى تاريخ أقدم بكثير، حيث ورد ذكر شجرة الكرز والوشنة -فاكهة تشبه الكرز لكنها أصغر حجماً وأكثر حموضة- في وثائق زراعية تعود لأكثر من 150 عاماً.

واجهت هذه الزراعة في إدلب خلال السنوات الماضية تحديات قاسية، ففي سنوات الحرب تم إغلاق المنافذ التجارية، وتراجعت حركة التصدير، لتحلّ محلها المنتجات المستوردة من تركيا، ما أدى إلى انخفاض أسعار الكرز المحلي رغم جودته العالية.

كما عانى المزارعون من ارتفاع كبير في تكاليف الزراعة، خاصة أسعار المبيدات والأدوية الزراعية، وقلة الأمطار في المواسم الأخيرة، ما أدى إلى جفاف عدد كبير من الأشجار بينما أصيبت الأشجار المتبقية بجفاف جزئي وتدهور في الإنتاج.

وكان هناك مشاكل أخرى مثل انتشار الحشرات الضارة -مثل حشرة حفار الساق- التي تسببت موت أعداد كبيرة من أشجار المحلب، مع غياب شبه تام لحملات مكافحة فعالة، إضافةً إلى الزراعة المختلطة للكرز والمحلب إلى جانب الزيتون، والتي أدت إلى تضرر الكثير من الأشجار.

حمص

في ذاكرة أهل قرية البريج ماضٍ كرزيّ جميل، ثماره التي كانت تُقطف بعناية وتعدّ خصيصاً للتصدير، كانت تحمل نكهة مميزة وكانت تعدّ من الأجود على مستوى البلاد.

لكن سنوات الحرب تركت أثرها الموجع، إذ جرى اقتلاع الآلاف منها وتحطيبها، واليوم ورغم الأمل بإعادة هذا الماضي، إلا أنه يوجد تحديات عديدة مثل أسعار أجور الفلاحة الباهظة، ندرة اليد العاملة، والطرق الزراعية المدمّرة وحتى لو زُرعت من جديد، فإن الأشجار تحتاج إلى سنوات طويلة لتثمر.

أشهر الأصناف التي تميزت بها حمص والتي كانت تُصدَّر إلى الأسواق الخارجية تشمل كرز الفرعوني والنابليون والكستنا.

وغير البريج، تنتشر زراعة الكرز في مناطق عدة من محافظة حمص، أبرزها المركز الغربي وتلدو، المركز الشرقي، وتلكلخ، والقصير، والقريتين، وتغطي في هذه المناطق مساحة تبلغ نحو 771.5 هكتاراً، منها 67.6 هكتاراً مزروعة بطريقة السقاية، و703.9 هكتاراً بعلية.

اقرأ أيضاً: هل يتعافى قطاع النحل في سوريا بعد سنوات من الركود؟

تصدير الكرز السوري

منذ سنوات، كان الكرز السوري ملك على عرش الفاكهة التي تُصَّدر إلى أوروبا وروسيا، وخاصة كرز سرغايا الذي اشتهر بجودته العالية وطلبه الواسع في الأسواق العالمية، لكن منذ اندلاع الحرب وتوالي العقوبات الأوروبية، تغيّر هذا الواقع.

ورغم أن التصدير لم يتوقف، إلا أنه لم يواكب زيادة الإنتاج… وبالنسبة للأسعار الأخيرة، في السوق العالمية، قد يصل سعر الكيلو الواحد من الأنواع الفاخرة -مثل الفرعوني والكستنا- إلى نحو 130 ألف ليرة سورية، بينما يباع بالجملة محلياً بسعر يقارب 30 ألف ليرة، لكن مع تدفق المحصول بدأت الأسعار بالهبوط الحاد حتى وصلت إلى 3 – 6 آلاف ليرة فقط للكيلو، بحسب السوق في العام الماضي.

أما السوق المحلي فيباع فيه أنواع أقل جودة -مثل العجمي وقلب الطير وأبو طعجة- إذ تمتاز هذه الأصناف بنعومة قشرتها فلا تحتمل التصدير، لذا تبقى في الأسواق الداخلية.

تحديات زراعة الكرز

اليوم، يقلق المزارعون من اندثار زراعة الكرز في سوريا خلال السنوات المقبلة، خاصةً أن كثيرون منهم لا يملكون مصدر رزق آخر، ويعتمدون بالكامل على هذا المحصول الموسمي… هذا القلق يأتي بسبب غياب الدعم الزراعي الكافي واشتداد آثار التغير المناخي.

ولأنّها من الزراعات المهمة ذات العائد الكبير، فهي تحتاج بسرعة تحتاج إلى تدخلات لإنعاشها، سواء من خلال دعم مباشر للمزارعين المتضررين، أو تحسين البنى التحتية الزراعية، وتوسيع فرص التصدير خصوصاً نحو الأسواق الأوروبية.

اقرأ أيضاً: الزيتون السوري.. من الاكتفاء إلى الانهيار