الكاتب: أحمد علي
في أرضٍ عُرفت عبر التاريخ بأنها سلة غذاءٍ لمن حولها، تعاني اليوم سنابل القمح من العطش، ليس فقط لمياه الري، بل لبذار نقيّ يعيد للتربة كرامتها وللمزارع أمله. من ريف حماة إلى حقول الجزيرة، يتكرر المشهد: قمحٌ يتراجع إنتاجه، وفلاحٌ يتساءل عن سرّ الانحدار من مواسم الوفرة إلى زمن الشحّ. ولا يتعلق الأمر فقط بالجفاف أو المحروقات، بل بقلب الزراعة ذاته: البذار.. كل ما يجب أن تعرفه ستجده في هذا التقرير من «سوريا اليوم 24».
القمح السوري.. أزمة البذار: من أين نبدأ؟
يشكّل غياب البذار الصافي أحد أبرز تحديات القطاع الزراعي في سوريا اليوم، بحسب خبراء ومزارعين. فخلال السنوات الأخيرة، تعرّضت مراكز إكثار البذار لتدمير ممنهج، ما جعل الفلاحين يعتمدون على بذار مجهولة المصدر، بل وأكثر من ذلك، مهربة ومحمّلة بالأمراض. من أخطر هذه الأمراض «النيماتودا»، التي لم تكن معروفة في البلاد من قبل، وأصبحت اليوم تهدّد المحاصيل.
«كنا نخزن البذار الجيد من موسم إلى آخر»، يقول أبو حسين، وهو فلاح من ريف حماة. ويضيف بحسرة أن إنتاجية الدونم انخفضت إلى النصف، ويحمّل المسؤولية لعدة عوامل: تراجع الدعم الحكومي، صعوبة الحصول على الأسمدة والمحروقات، والسعر المتدني للقمح الذي لا يغطي حتى تكاليف الزراعة. ففي ظل هذه الظروف، لم يعد الفلاح قادراً على حماية الموسم، ولا تأمين لقمة العيش على حدّ قول أبو حسين.
قرارات القمح الجديدة
لهذه الأسباب التي ذكرها أبو حسين، وغيرها ربما، أصدر الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع في 11 حزيران من العام الجاري 2025 المرسوم الجمهوري رقم 78 لعام 2025، الذي يقرّ بمنح مكافأة تشجيعية قيمتها 130 دولاراً أمريكياً عن كل طن قمح يسلمه المزارع إلى المؤسسة السورية للحبوب. ويُضاف هذا الحافز إلى سعر الشراء الرسمي، في خطوة اعتبرها البعض تهدف إلى تحفيز الفلاحين على تسليم محصولهم لمراكز الدولة والاستمرار في زراعة القمح رغم التحديات التي تواجههم.
بالتوازي مع هذا المرسوم، أصدرت وزارة الاقتصاد والصناعة قراراً يحدد سعر شراء طن القمح القاسي (درجة دوكما الأولى) من الفلاحين بـ 320 دولاراً أمريكياً لموسم 2025. وهذا السعر، عند إضافته إلى المكافأة الرئاسية، يصل إلى إجمالي 450 دولاراً للطن الواحد يُقدّم للفلاحين، في محاولة لتوفير دعم اقتصادي مباشر وتحفيز الإنتاج الوطني.
كذلك، أعلنت هيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية لـ شمال وشرق سوريا في بيان صدر بنفس التاريخ، أن سعر شراء طن القمح لهذا الموسم تم تحديده بـ 420 دولاراً أميركياً. وتشمل هذه التسعيرة دعماً مباشراً قيمته 70 دولاراً لكل طن، أي أن السعر الأساسي (دون الدعم) هو 350 دولاراً، ويضاف إليه الدعم حتى يصل الإجمالي إلى 420 دولاراً للطن. وقد يدفع هذا الأمر مزارعي شمال شرق سوريا لبيع محصولهم لدمشق التي قدمت فارقاً في السعر النهائي مقداره 30 دولاراً لصالحهم.
وقد جاء في بيان الإدارة الذاتية أن هذا الإجراء يهدف إلى تعزيز قدرة المزارعين في مناطق الإدارة الذاتية، ومساعدتهم على الاستمرار بالإنتاج رغم الجفاف والأعباء الاقتصادية. إضافة إلى تحديد السعر، شمل التعميم حزمة دعم شاملة، تشمل دعمًا للمازوت بأسعار مخفضة، وتوزيع بذار وسماد بأسعار مخفضة أيضًا، وتنظيم توريد المازوت وتطوير البحوث الزراعية.
منظومات التخزين

واحدة من النقاط المهمة في إطار حديثنا هنا هي انهيار منظومات تخزين القمح.
وفي هذا الإطار، يؤكد المهندس محمد جغيلي، وهو مدير سابق لحوض العاصي، أن ما حصل في سنوات الحرب كان كارثياً. مراكز البذار دُمرت، والبذار المخزن في الصوامع نُقل بطريقة غير مدروسة إلى مؤسسة الحبوب، حيث خُزّن في ظروف غير مناسبة، ثم وُزّع دون غربلة كافية أو تعقيم فعال. والنتيجة كانت تراجع الإنتاج الوطني من أكثر من 4.5 ملايين طن إلى نحو 200 ألف طن فقط على حد قوله.
القمح السوري.. ضحية السياسات والأمراض
إلى جانب ما تقدّم، يظهر لدى البحث في الأمر أن الحرب لم تكن وحدها سبب التراجع، بل أيضاً غياب السياسات الزراعية الفعالة في ظل السلطة السابقة. وبحسب الدكتور تامر حنيش، مدير إدارة البحوث الزراعية، فإن الدولة كانت تُجبر الفلاحين على زراعة القمح سنوياً دون اعتماد الدورة الزراعية، ما أضعف التربة وأثر على الإنتاجية. أما مستلزمات الزراعة فإما نادرة أو باهظة الثمن، ما جعل من كل موسم زراعي مغامرة خاسرة من وجهة نظره.
ومن أخطر التحديات التي ظهرت مؤخراً، هو دخول بذار مهرب إلى البلاد، مجهول الهوية ومحمّل بالأمراض. ومن بين هذه الأمراض، «النيماتودا»، التي بدأت تتكاثر في التربة وتنتقل من حقل إلى آخر. فغياب الرقابة وغياب السياسات الوقائية جعل من هذه المشكلة تهديداً حقيقياً للأمن الغذائي.
ومرض النيماتودا، هو أحد الأمراض التي تسببها الديدان الخيطية المجهرية (Nematodes)، وهي كائنات طفيلية تعيش في التربة وتهاجم جذور النبات أو أنسجته، وتُعد من المشكلات الزراعية الخطيرة التي تؤثر على إنتاجية المحاصيل، خاصة القمح وتضعف إنتاجيته، وعلى المدى البعيد، وبحال لم يتم علاجه فإنه يسبب تلف طويل الأمد في التربة.
سلالات جديدة قيد الاعتماد
رغم هذا الواقع المظلم، هناك مبادرات واعدة. إذ يؤكد الدكتور حنيش في حديث له أن الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية نجحت في استنباط سلالتين من القمح القاسي، ملائمتين للزراعة المروية، وتتميزان بإنتاجية عالية ومقاومة للأمراض. ومن المتوقع اعتماد هاتين السلالتين قريباً وفق ما يفيد، وقد تم تسليم بذارهما للمؤسسة العامة لإكثار البذار كما يكشف.
لكن نجاح هذه الأصناف الجديدة لا يكتمل دون التزام الفلاحين بالحزم التقنية: من نوعية السماد إلى توقيت الزراعة والحصاد. إذ أن ضعف الإرشاد الزراعي وعدم توفر مستلزمات الزراعة يفرغان هذه الجهود من قيمتها، ما يستدعي خططاً أكثر شمولاً تربط البحث العلمي بالميدان مباشرةً.
حول هذا، يشدد المهندس جغيلي على ضرورة إعادة هيكلة مؤسسة إكثار البذار، وتأمين كادر فني مؤهل لإنتاج بذار نقي وتوزيعه على المزارعين. كما يقترح إنشاء بنك للبذور يمكن من خلاله حفظ أي بذار جيد قد يكون بحوزة بعض الفلاحين، والعمل على تطويره على مدى خمس سنوات ليصبح معتمداً.
خارطة الطريق للنهضة الزراعية
من أبرز المقترحات العملية المطروحة:
- الالتزام بزراعة الأصناف المعتمدة والمخصصة لكل منطقة.
- اتباع الدورة الزراعية المناسبة وعدم زراعة القمح بشكل متوالٍ سنوياً.
- دعم الفلاحين بالقروض العينية والنقدية.
- تأمين مستلزمات الإنتاج بأسعار مدروسة.
- تنظيم ندوات وأيام حقلية لتدريب المزارعين على استخدام التقنيات الحديثة.
- تسويق المحصول بأسعار تشجيعية.
- دمج الحيازات الصغيرة لتصبح أكثر فعالية.
مستقبل القمح السوري.. بين التحدي والفرصة
ختاماً، ليس القمح مجرد محصول بالنسبة لسوريا، بل قضية سيادة غذائية وأمن اقتصادي. لذلك الامر يتطلب جهوداً عالية وعمل عالي المسؤولية من جميع الأطراف المعنية، فعودة القمح السوري إلى سابق مجده وإن بدت صعبة، فهي في الحقيقة لا تتطلب معجزة، بل إرادة حقيقية ونهضة مؤسسية شاملة تبدأ من البذار وتنتهي عند رغيف الخبز. وإن كانت الحقول قد أرهقها النزيف، فما زالت التربة تحمل الذاكرة، وتنتظر من يعيد لها خصوبتها..