القطار فائق السرعة في سوريا: خيالٌ علمي أم مشروع قابل للتحقق؟!

الكاتب: أحمد علي
حلمٌ يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى الأدب منه إلى السياسات العامة: أن تستيقظ أسرة في ريف حماة، وتتناول فطورها على مهل، ثم يركب ربُّ الأسرة قطاراً فائق السرعة يلتهم المسافة إلى دمشق في أقل من ساعة، ويعود مساءً إلى قريته من دون أن يضطر إلى النزوح نحو ضواحي خانقة.
لا نرى أن هذا الحلم ترفاً أو هروباً من الواقع؛ بل نجده مقترحاً عمليّاً لمعالجة جذور أزمات الاكتظاظ والهجرة الداخلية وتدهور الخدمات في المدن السورية، ومن هنا جاءت فكرة العمل على هذا المقال، فمع كل خطوة تتخذها دول العالم لتسريع القطارات وتحديث الشبكات، يصبح السؤال المطروح هنا أكثر منطقية: لماذا لا نُدخل القطار فائق السرعة في سوريا إلى دائرة النقاش الجدي؟
لماذا القطار فائق السرعة في سوريا الآن؟
تفكك الجغرافيا السورية إلى أحزمة سكنية متباعدة وخدمات متذبذبة جعل التنقّل اليومي تحدياً يستهلك الوقت والدخل والأعصاب. والقطار فائق السرعة في سوريا لا يُقدَّم كعصا سحرية، لكنه أداة بنية تحتية تغيّر قواعد اللعبة: يُعيد توزيع السكان من مركز خانق إلى مناطق بعيدة نسبياً لكنها قادرة على العيش والعمل بسهولة ويسر، ويصل الجامعة بالمصنع، والمدينة بالريف، ويحوّل الزمن إلى مورد متاح بدل أن يكون عبئاً يومياً.
المسافات تتكلم: دمشق – حمص نحو 141 كم، دمشق – حماة قرابة 186 كم، ودمشق – حلب بحدود 310 كم، وهي أطوال تسمح – عند سرعات تشغيلية بين 250 و300 كم/ساعة – برحلات تتراوح تقريباً بين 35 و50 دقيقة للأولى والثانية، ونحو 70 إلى 90 دقيقة للثالثة تبعاً لعدد التوقفات، ما يفتح الباب لثقافة «اسكن حيث ترغب واعمل حيث تُنتج».
ما الذي تعلّمناه من العالم؟
الصورة العالمية واضحة: حين تقترب السرعات التجارية من 300 كم/ساعة، تنكمش المسافات وتزدهر اقتصاديات المدن المتوسطة. في الصين مثلاً، خفّض خط بكين – شنغهاي زمن الرحلة إلى نحو 4 ساعات و18 دقيقة على مسافة تتجاوز 1300 كم، وصار من أكثر الخطوط ازدحاماً وربحية.
وفي المغرب، دشّن «البُراق» أول خط أفريقي فائق السرعة بسرعة تصل إلى 320 كم/ساعة، قاطعاً طنجة – الدار البيضاء بنحو ساعتين وعشر دقائق، ومؤسساً لثقافة تنقّل جديدة ربطت الموانئ والأسواق والجامعات على طول الساحل الأطلسي.
أما السعودية فأطلقت «الحرمين» الذي يصل مكة بالمدينة في حوالي ساعتين عند سرعة تشغيلية 300 كم/ساعة، مثبتاً أن المناخ الحار والتحديات الجيومورفولوجية (الصعوبات التي تفرضها طبيعة سطح الأرض وأشكاله وعملياته النشطة على تنفيذ أي مشروع بنية تحتية) لا تقف عائقاً أمام القطارات السريعة. وتجربة تركيا بسرعة تشغيلية 250 كم/ساعة بين أنقرة وإسطنبول قرّبت أكبر مدينتين خلال نحو أربع ساعات ونصف، منافِسةً الطيران الداخلي.
ولأن الخيال هو الوقود الذي يحرك التقدم، لا بأس أن نرفع السقف أكثر: الصين طوّرت نموذج قطار مغناطيسي «ماغليف» بسرعة تصميمية 600 كم/ساعة، كُشف عنه أول مرة عام 2021، وتواصل تحسيناته واختباراته حتى اليوم، وإن لم يدخل خدمة تجارية واسعة بعد. الدرس هنا أن التكنولوجيا تركض للأمام، وأن نافذة الاستفادة ستظل مفتوحة لمن يخطّط بعقلانية ويبني على المجرّب.
منافع تتكلم بالأرقام… لا بالشعارات
تجذب القطارات فائقة السرعة الركّاب عندما تُحقق «زمن ثلاث ساعات» بين المدن الكبرى، فتنافس الطيران وتتفوق عليه من الباب إلى الباب. تقليص زمن دمشق – حلب إلى قرابة ساعة ونصف، ودمشق – حماة إلى أقل من خمسين دقيقة، ودمشق – حمص إلى نحو خمسة وثلاثين دقيقة، يعني أن شرائح واسعة تستطيع السكن في مدن أصغر أو في الريف مع الحفاظ على وظيفة في العاصمة.
هذا التحول يخفّف ضغط العقارات والإيجارات في دمشق، ويعيد الحيوية إلى أسواق المحافظات، ويجعل الاستثمار الصناعي في الوسط والشمال أكثر إغراءً بفضل الوصول السريع إلى المرافئ والحدود.
بيئياً، السكك الحديدية – إجمالاً – لا تتجاوز انبعاثاتها في كثير من البلدان عشرات الغرامات من ثاني أكسيد الكربون لكل راكب-كم، مقابل مئات الغرامات للطائرات في الرحلات القصيرة؛ أي أن القطار قد يكون أقلَّ من الطيران بنحو سبع مرات من حيث الانبعاثات وفق تقديرات دولية، وهذا فارق لا يستهان به في أي مسار وطني نحو التعافي الأخضر.
أمّا اقتصادياً، فالأرقام لا تحتاج إلى مبالغة: بكين – شنغهاي مثال على جدوى مالية مباشرة، حيث حقّق الخط أرباحاً صافية بمليارات اليوانات، مستنداً إلى كثافة ركاب عالية وزمن منافس للطيران.
تجارب كهذه تعلّمنا أن السؤال ليس «هل تربح القطارات فائقة السرعة؟» بل «أين تَربح؟» و«أي مسارات تُسدد كلفتها بسرعة؟» إذ لا يمكن تعميم النجاح على كل ممرّ جغرافي بلا دراسة طلب دقيقة.
كم تُكلّف؟ ومِن أين يأتي التمويل؟
الكلفة تعتمد على التضاريس والمعايير الهندسية ونِسَب الجسور والأنفاق وسعر الأراضي: تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الصين خفّضت تكاليفها عبر التصنيع المعياري ومدّ مسافات طويلة على جسور (Viaducts)، ما جعل بعض العناصر البنيوية أرخص بكثير من المتوسط العالمي. وفي أمثلة أخرى حديثة، بلغت كلفة جاكرتا – باندونغ في إندونيسيا نحو 52 مليون دولار/كم، فيما تتراوح أرقام خطوط صينية كثيرة بين 17 و30 مليون دولار/كم، ما يوضح الفجوة الكبيرة بين البيئات التنفيذية المختلفة.
على هذا الأساس، يجب أن يأخذ القياس على سوريا في الحسبان: الجغرافيا، وإعادة الإعمار، وسلاسل التوريد، والمخاطر. ومع ذلك يمكن وضع تقدير أولي تقريبي: إذا بدأنا بمقطع دمشق–حمص (نحو 160 كم)، فقد تتراوح فاتورة التنفيذ بين 2.7 و4.8 مليارات دولار إذا تحققنا من شروط التكاليف الأقرب للنطاق «الاقتصادي» المذكور، مع التأكيد أن هذا تقدير لا يحل محل دراسة جدوى تفصيلية.
والتمويل قد يدمج قروضاً تنموية ميسّرة، وشراكات مع القطاع الخاص، وصيغ «قيمة الأرض» حول المحطات، وحتى سندات اغتراب موجّهة للجاليات، شرط حوكمة صارمة وشفافية عقود تتوافق مع المعايير الدولية.
نشير هنا أننا في حسبتنا السابقة اعتمدنا قياساً «قريناً» للحالة السورية لا عمومياتٍ نظرية؛ ولحساب «فاتورة التنفيذ» استخدمنا شريحة كلفة للكيلومتر تقع بين 17 و30 مليون دولار بوصفها شريحة «اقتصادية» قابلة للتحقق: طرفها الأدنى مُسنَدٌ إلى متوسطات البنك الدولي لشبكة الصين (17–21 مليون دولار/كم) التي عُرفت بتقييس التصميم وتقليل الكُلف، فيما يرفع الطرفُ الأعلى التقديرَ ليعكس فروق البيئة وسلاسل التوريد والمخاطر قياساً على مشاريع راهنة في المغرب وتركيا. وعليه، كانت الحِسبة كالتالي:
160 كم × (17–30) مليون دولار/كم = نحو 2.7–4.8 مليارات دولار؛ وهو نطاق تمهيدي للاستئناس، نعيد ونؤكّد مجدداً أنه لا يغني عن دراسة جدوى تفصيلية تُفكّك البنود وتُدرِج مخاطر التنفيذ والتمويل.
اقرأ أيضاً: تأهيل جسر الرستن في حمص.. متى ينتهي؟
خارطة طريق واقعية: من خطوة أولى إلى شبكة
الانطلاق بممر واحد ذي أثر مرتفع أفضل من التشتت: مقطع دمشق – حمص يخلق أول «إثبات جدوى» سريع وملموس، لأن زمن الرحلة القصير سيوّلد طلباً تلقائياً من الطلاب والموظفين والقطاع الصحي والخدماتي.
المرحلة الثانية تمد الخط إلى حماة، والثالثة إلى حلب، مع محطات وسيطة مصممة كعقد حضرية تنسج حولها أحياء جديدة، وحاضنات أعمال، وجامعات تطبيقية مرتبطة بالصناعة. وكل محطة يجب أن تكون «بوابة حضرية» لا «منصة ركوب» فقط: ساحات عامة، ومسارات مشاة ودراجات، وصلات حافلات سريعة، ومخططات إسكان ميسّر للطبقة العاملة التي ستنتقل يومياً.
ووفق هذا المنهج في المعالجة والتفكير والتنفيذ، تُحوّل البنية التحتية إلى سياسة إسكان واقتصاد محلي في آن واحد.
التقنية: عجلات فولاذ أم مغناطيس؟
المدرسة «الكلاسيكية» (عجلات على سكة) بسرعات 300–350 كم/ساعة هي الأكثر انتشاراً عالمياً، ومن مزاياها الاعتمادية وتوافر الخبرات. في المقابل، المغناطيسية المعلّقة «ماغليف» تُغري بسرعات أعلى تصل نظرياً إلى 600 كم/ساعة، وقد شغّلت شنغهاي خطاً تجارياً بسرعة قصوى 431 كم/ساعة منذ 2004، بينما يواصل الصينيون تحسين نموذج 600 كم/ساعة عبر برامج اختبار متقدمة، ويطوّر الباحثون حلولاً لمشكلات «انفجار النفق» الهوائي المصاحب للسرعات الشديدة.
والفكرة هنا ليست «إبهاراً» بل قراءة اتجاه التكنولوجيا: التخطيط الذكي يترك مساحات للتحديث المستقبلي، لكنه يختار اليوم ما يحقق أفضل مزيج من الأداء والكلفة وسلاسة التنفيذ.
ماذا يتطلب النجاح محلياً؟
أولاً، حكومة رشيدة تضع ملف النقل في قلب التعافي الاقتصادي، وتتعامل مع القطار فائق السرعة في سوريا كبرنامج وطني عابر للدورات السياسية وتقلّب الحكومات، بملكية عامة قوية وتنفيذ تنافسي مفتوح.
ثانياً، مؤسسة تشغيلية مستقلة مالياً، تتبنى مقاييس أداء دقيقة لامتلاء القطارات والالتزام بالمواعيد وكلفة المقعد/كم. ثالثاً، إطار تشريعي يُيسّر نزع الملكيات العادل والتعويض الشفاف ويمنع المضاربة العقارية حول المحطات.
رابعاً، توطين سلسلة القيمة: تصنيع عوارض، وتجميع عربات، وتوطين خدمات الصيانة، بما يخلق وظائف نوعية ويضمن الاستدامة. وخامساً، معيارية رقمية منذ اليوم الأول: حجز إلكتروني مرن، بطاقات ذكية، تكامل مع الحافلات وسيارات الأجرة، ولوحة قيادة وطنية مفتوحة البيانات لصنّاع القرار والباحثين.
أثر يتجاوز السكة
حين تتنفس الشام وتتنفس حلب، تلتئم الجغرافيا الاقتصادية السورية من جديد. الطالب الذي يسكن سلمية ويَدرس في جامعة دمشق لن يضطر للانقطاع لأن الطريق مرهق ومزدحم، والطبيب الذي يعمل يوماً في مشفى بحمص ويوماً في دمشق سيضاعف فائدته في خدمة الشأن العام على سبيل المثال لا الحصر، ولنقس على ذلك… وسوق العمل في هذه الحالة، يكتسب مرونة جغرافية تُخَفِّض البطالة الاحتكاكية، وتُنعش المدن الوسطى، وتُعيد للريف بعضاً من شبابه.
لهذا، فإن القطار فائق السرعة في سوريا ليس شعاراً لتجميل الواقع بل مشروع لإعادة رسم الخريطة الذهنية للبلد، فهل هنالك أجمل وأرشق من أن ترتبط المدن بالثواني لا بالساعات، وأن يصبح اختيار مكان السكن قراراً اجتماعياً لا اضطراراً اقتصادياً؟!
وفي المحصلة، لا نحتاج أن نكون أوّل من يفعل ذلك، بل أن نفعلَه جيداً: اختيار المسار الذي «يدفع عن نفسه» بسرعة، بناء مؤسسات قادرة على التشغيل والصيانة، وجعل كل محطة نقطة انطلاق لحياة حضرية أفضل، لا مجرّد رصيف وساعة قطار…
اقرأ أيضاً: سوريا والرهان الذكي: لماذا يجب أن يبدأ «الاستثمار في صناعة الألعاب» الآن؟




