في لحظةٍ فارقة، تحوّلت مدينة جرمانا، الواقعة في ريف دمشق، من واحةٍ للتعايش إلى مسرحٍ لتوتراتٍ دامية، إثر انتشار تسجيل صوتي مسيء للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وهذا الحدث، الذي نُسب إلى أحد أبناء الطائفة الدرزية، سرعان ما أشعل نيران الكراهية، مُهدداً بنسف النسيج الاجتماعي الذي طالما تميزت به المدينة.
التسجيل المسيء: شرارة الفتنة
بدأت القصة بتداول تسجيل صوتي عبر تطبيق «واتساب»، يُسيء إلى مقام النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وعلى الفور، انتشرت موجة من الغضب والاستنكار، خاصةً بعد أن نُسب التسجيل إلى أحد مشايخ الطائفة الدرزية. إلا أن الشيخ المعني نفى بشكل قاطع علاقته بالتسجيل، مؤكداً أن الصوت ليس صوته، وأن ما حدث هو محاولة لإشعال الفتنة بين مكونات الشعب السوري.
وتزامن هذا مع مظاهرات خرجت في عدة مدن جامعية مثل «حمص» و«حلب»، بالإضافة إلى شوارع مدينة «حماة» وساحة الأمويين في دمشق، حيث عبر المتظاهرون عن رفضهم الشديد للإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. لكن المظاهرات لم تخلو من بعض الأصوات التحريضية التي دعت إلى العنف ووجهت اتهامات طائفية ضد مكونات سورية مختلفة، ما زاد من حدة التوتر وأدى إلى تصعيد الاشتباكات وسقوط المزيد من الضحايا.
من الكلمات إلى الرصاص
ولم تقتصر ردود الفعل على الاستنكار، بل تطورت إلى اشتباكات مسلحة في مدينة جرمانا. اندلعت المواجهات بين مجموعات مسلحة من داخل المدينة وخارجها، مما أسفر عن سقوط 13 شخصاً، بينهم عناصر من قوى الأمن العام، وإصابة العشرات. واستخدمت في الاشتباكات أسلحة خفيفة ومتوسطة، مما أدى إلى حالة من الذعر والنزوح بين السكان.
صحنايا أيضاً!
بالتوازي، اندلعت اشتباكات مسلحة في بلدة «صحنايا» وأطراف «أشرفية صحنايا» بريف دمشق. ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، هاجم مسلحون محليون أحد الحواجز الأمنية في صحنايا. وأسفرت الاشتباكات التي استخدمت فيها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، عن إصابة 4 عناصر من الحاجز في صحنايا، وتم فرض حظر التجول في المنطقة وإيقاف الدوام المدرسي، لتشهد البلدة هدوءاً نسبياً، لم يدم كثيراً مع تجدد إطلاق النار الكثيف وقذائف «هاون» في منطقة أشرفية صحنايا، والتي استمرت حتى حوالي الساعة السادسة صباحاً من يوم الأربعاء 30 أبريل 2025.
الردود الرسمية: دعوات للتهدئة والتحقيق
أصدرت وزارة الداخلية السورية بياناً أكدت فيه أنها باشرت تحقيقات مكثفة لتحديد هوية صاحب التسجيل الصوتي المسيء، مشيرةً إلى أن التحقيقات الأولية لم تثبت صحة نسبة التسجيل إلى الشخص المتهم. ودعت الوزارة المواطنين إلى الالتزام بالنظام العام وعدم الانجرار إلى أي تصرفات فردية أو جماعية قد تخلّ بالأمن أو تمس الأرواح والممتلكات.
الهيئة الروحية للدروز: استنكار وتحذير من الفتنة
من جانبها، أصدرت الهيئة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز في جرمانا بياناً استنكرت فيه بشدة الإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفتها بأنها «مشروع فتنة وزرع للانقسام بين أبناء الوطن الواحد». كما دانت الهجوم المسلح على المدينة، معتبرةً أنه استهدف المدنيين الأبرياء وروّع السكان الآمنين دون وجه حق.
وفي سياق متصل، حذر شيخ عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز، الشيخ يوسف جربوع، من الفتنة التي تعمل أطراف عديدة على إذكائها بهدف ضرب وحدة النسيج السوري. ودعا السوريين إلى التروي وتحكيم العقل، مشدداً على أن مشيخة العقل لن تقبل أي إساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
اتفاق لاحتواء التوتر: خطوة نحو السلم الأهلي
وفي محاولة لاحتواء التوتر، توصل ممثلون عن السلطة التنفيذية السورية والمجتمع المحلي والأهلي ومشايخ في مدينة جرمانا إلى اتفاق ينص على ضمان إعادة الحقوق وجبر الضرر لذوي الضحايا، والتعهد بالعمل على محاسبة المتورطين بالهجوم الأخير وتقديمهم للقضاء العادل. كما نص الاتفاق على ضرورة توضيح حقيقة ما جرى إعلامياً والحد من التجييش الطائفي والمناطقي.
في خضم هذه الأحداث، برزت أصوات تدعو إلى التهدئة وتحذر من الانجرار وراء التحريض الطائفي. فالناشطة سلوى زكزك، على سبيل المثال، شددت على ضرورة محاسبة المسيء بالقانون، وليس بإراقة الدماء في الشوارع. كما أكدت أن جرمانا ليست ذات نسيج طائفي واحد، بل تحتضن مختلف فقراء ومهمشي سوريا الذين لجؤوا إليها.
اقرأ أيضاً: بين «جرائم الحرب» و«القصور المنهجي».. تقرير العفو الدولية عن أحداث الساحل
وهنا، لا بد من القول إن الحفاظ على السلم الأهلي يُعد من أهم مقومات استقرار الوطن. فحينما تُثار الفتن الطائفية، يكون الخاسر الأكبر هو الوطن بأسره. لذلك، من الضروري تعزيز ثقافة الحوار والتسامح، والاحتكام إلى القانون في معالجة أي إساءة، وعدم السماح لأي جهة باستغلال الأحداث لتأجيج الصراعات.
فلا يخفى على أحد أن أعداء الوطن، وعلى رأسهم «إسرائيل»، يسعون دائماً إلى استغلال أي فرصة لزرع الفتنة بين أبناء الشعب السوري، بهدف تقسيمه وإضعافه. وإن الأحداث الأخيرة في جرمانا تُعد مثالاً واضحاً على كيفية استغلال حادثة فردية لإشعال صراع طائفي، مما يستدعي من الجميع التكاتف والوعي بخطورة مثل هذه المخططات.
دروس من جرمانا
تُعد أحداث جرمانا جرس إنذار يُحذر من خطورة الانجرار وراء الفتن الطائفية. فالوطن لا يُبنى إلا بوحدة أبنائه، والتعايش السلمي بينهم. لذلك، من الضروري أن تكون هذه الأحداث دافعاً لتعزيز ثقافة التسامح، والاحتكام إلى القانون، والوقوف صفاً واحداً في وجه كل من يسعى إلى زعزعة استقرار سوريا.