ليس الفقر مجرّد فراغ في الجيوب، إنه ندبة عميقة تترك آثاراً لا تُمحى، وعدوّ يتسلل إلى عمق الحياة اليومية، ينهش الجسد بصمت، وينهك الروح لتنطفئ يوماً بعد يوم… في عالمٍ يُباع فيه العلاج بثمنٍ باهظ، يتحول الفقراء إلى ضحايا، وتجد الأمراض المزمنة طريقها بسهولة إلى أجسادهم المنهكة، وفي بلادٍ كُتب عليها الأزمات المستمرة مثل سوريا، يصبح المرض نتيجة حتمية للفقر، وجزءاً من معاناة لا تنتهي.
في هذا المقال، سنتحدث عن العلاقة التي تربط بين الفقر والأمراض المزمنة في العالم، ونسلط الضوء على هذا الموضوع في سوريا كنموذج لمعاناة مركّبة، تتشابك فيها الأزمات الاقتصادية والإنسانية مع ازدياد الأمراض.
الفقر والأمراض المزمنة: إحصاءات صادمة
بادئ ذي بدء، لا بد من التأكيد على أن العلاقة بين الفقر وتدهور الصحة ليس أمراً نفترضه من تلقاء أنفسنا، بل هو حقيقة موثقة بأدلّة ودراسات علمية قوية تؤكد انتشار هذه الفاجعة على نطاق عالمي، وليس فقط في سوريا.
فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة أن الأفراد الأقل ثراءً لديهم احتمال أعلى بنسبة 50% تقريباً للإصابة بالأمراض المزمنة مقارنةً بمن يتمتعون بموارد مادية أكبر، وتشير هذه النتيجة بوضوح إلى أهمية تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية من خلال تحسين ظروف العمل والمعيشة والتعليم، بهدف الحد من عبء هذه الأمراض.
كما بيّنت دراسة نُشرت في مجلة Frontiers in Medicine أن الفقر المقترن بالتهابات مزمنة يزيد من خطر الوفاة بأمراض القلب بنسبة 127%، وبالسرطان بنسبة 196%، مقارنةً بمن لا يعانون من الفقر مع وجود هذه الالتهابات.
وحول العالم، تشير التقديرات إلى أن حوالي 80% من الوفيات ترتبط بالأمراض المزمنة، وهو ما يثير القلق خصوصاً بين الفئات ذات الدخل المتوسط التي تعاني من آثار النزاعات المختلفة، فهذه الفئات غالباً ما تكون أكبر سناً، وتتحمل أعباءً صحية ثقيلة، وتحتاج إلى علاجات طويلة الأمد تتطلب موارد مالية كبيرة.
وفي الأوساط الإنسانية، تزايدت الاعترافات بأن الأمراض المزمنة باتت تمثل تحدياً كبيراً، خصوصاً بين اللاجئين في المناطق الحضرية، ونتيجة لذلك، تجد الحكومات والمنظمات المانحة نفسها أمام معضلة معقدة، فكيف يمكنها تلبية الاحتياجات الصحية المتزايدة وسط موارد محدودة؟ ذلك لأن إدارة الأمراض المزمنة في صفوف اللاجئين تشكّل عبئاً باهظ التكلفة، يهدد بإنهاك أنظمة الرعاية الصحية ويقلل من فعالية الاستجابة الإنسانية.
وفي سوريا، لا تستثني هذه المشاكل الصحية المعقدة أحداً، سواء من بقي داخل البلاد طوال سنوات الحرب أو من لجأ إلى الدول المجاورة، وتتنوع التحديات الصحية التي يعاني منها السوريون بين الصدمات النفسية العميقة، ارتفاع ضغط الدم، السكري، السرطان، أمراض الجلد، الجهاز الهضمي، والجهاز التنفسي.
اقرأ أيضاً: سوريا عطشى: أزمة المياه تهدّد حياة الملايين والمستقبل مخيف!
وبالنسبة للاجئين حصراً، فقد عانوا وما زالوا يعانون من صعوبات معيشية، تشمل مساكن غير ملائمة، ونقصاً في الخدمات الأساسية، وبيئات عمل شاقة، ونظاماً غذائياً غير متوازن، إضافة إلى محدودية الوصول إلى الرعاية الطبية.
وقد وثّقت عدة دراسات، منذ عام 2011، الوضع الصحي المتدهور للاجئين في البلدان المضيفة، فعلى سبيل المثال، في الأردن، ورغم استجابة الحكومة الأولية بالسماح للاجئين بالوصول المجاني إلى مراكز الرعاية الصحية، إلا أن الضغوط الاقتصادية المتزايدة دفعت الحكومة في عام 2014، إلى فرض رسوم على الرعاية الصحية تعادل تلك التي يتحملها المواطنون غير المؤمن عليهم.
وبحلول عام 2018، تضاعفت هذه التكاليف بشكل كبير، وعلى الرغم من الدعم المقدم من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وبعض المنظمات، فإن أكثر من 80% من اللاجئين في الأردن يعيشون تحت خط الفقر، ما يجعل الرعاية الصحية عبئاً يفوق طاقتهم، ويستدعي زيادة كبيرة في التمويل الإنساني لتفادي انهيار الرعاية الصحية للاجئين.
وتعكس البيانات الصحية في الأردن حجم المشكلة، إذ أظهر مسح أُجري عام 2015 على 1550 أسرة لاجئة، أن نصف العائلات تقريباً، أفادت بأن أحد أفرادها أو أكثر تم تشخيصهم سابقاً بأحد الأمراض المزمنة، مثل ارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب، والسكري، والأمراض التنفسية المزمنة، والتهاب المفاصل، وقد بلغ عدد الحالات المبلغ عنها 1363 حالة.
وفي لبنان، لم يكن العبء أخفّ، رغم أن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين كانت تغطي نحو 85% من تكاليف الرعاية الصحية الأولية، ورغم أن اللاجئين هناك يعتمدون على دعم إضافي من منظمات غير حكومية محلية ودولية، والبنك الدولي، وجهات مانحة أخرى، ومع ذلك، فإن نظام الرعاية الصحية في لبنان يعتمد بشكل كبير على القطاع الخاص، ما يجعل الكلفة عائقاً كبيراً، لا سيما أن 70% من اللاجئين السوريين في لبنان يعيشون تحت خط الفقر.
وقد أكدت دراسة أُجريت صيف عام 2011 على 290 عاملاً زراعياً سورياً وأسرهم، المقيمين في مخيمات زراعية، مدى ارتباط الفقر وتدهور البيئة المعيشية بتدهور الوضع الصحي، إذ أبلغ 47% من المشاركين عن معاناتهم من مشاكل صحية، و20% أشاروا إلى إصابتهم بمرض مزمن أو حاد، بينما أفاد 15% بوجود مشكلتين صحيتين، و13% بثلاث مشاكل أو أكثر، كما أظهر التحليل وجود علاقة قوية بين تعدد الأمراض ورداءة حالة السكن والبنية التحتية.
وبالطبع، فإن من يعيش داخل سوريا ليس بمنأى عن هذه الأزمة الصحية المتفاقمة، ففي تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية العام الماضي، بعد زيارة ميدانية إلى سوريا، تم التأكيد على أن الأمراض المزمنة تشكّل نحو 75% من أسباب الوفيات في البلاد.
ولفت التقرير إلى أن النزاع الطويل، وتدمير البنية التحتية، والانهيار شبه الكامل في النظام الصحي، جعل من الصعب تشخيص الأمراض المزمنة في مراحلها المبكرة، أو متابعتها بالشكل المناسب، وكل هذا ساهم في جعل السيطرة على هذه الأمراض شبه مستحيلة، خصوصاً في المناطق الأكثر تضرراً.
وبهذا، تتكامل الصورة لتكشف عن أزمة صحية يعيشها السوريون في الداخل والخارج، أزمة تتشابك فيها عوامل الفقر، والنزوح، وسوء التغذية، وانهيار القطاع الصحي، لتنتج عنها بيئة مثالية لانتشار الأمراض المزمنة.
اقرأ أيضاً: أزمة جفاف تهدد الأمن الغذائي في سوريا.. وخسائر القمح تصل إلى 75%
الفقر والتوتر صديقان!
لنبتعد قليلاً فقط عن الأمراض المزمنة –رغم أن الحديث يوصلنا إليها- ونتحدث عن الظروف المعيشية الصعبة وتأثيرها على الجسم والعقل بشكل عميق، خاصة لدى الأطفال.
فبحسب بعض الدراسات، إن أحد أبرز المؤشرات الحيوية التي تتأثر بالفقر هو هرمون الكورتيزول، والذي يُعرف بهرمون التوتر، إضافة إلى الأدرينالين، الذي يفرزه الجسم عند التعرض للضغط أو الخطر.
في الدول المتقدمة، أظهرت دراسات متعددة أن الأطفال الذين ينتمون إلى أسر ذات دخل منخفض يعانون من مستويات كورتيزول أعلى مقارنة بأقرانهم من الطبقات الأكثر ثراءً، هذه المستويات المرتفعة تدل على تنشيط مزمن لمحور التوتر في الجسم، ما يعني أن هؤلاء الأطفال يعيشون في حالة استنفار دائم بسبب الضغوط المحيطة بهم.
دراسة أخرى قارنت بين أطفال من أسر فقيرة وأطفال من الطبقة المتوسطة، وأظهرت أن الأطفال الفقراء لديهم مستويات أعلى من الكورتيزول والأدرينالين، وهذا يؤكد تأثير الفقر المزمن في إبقاء الجهاز العصبي في حالة توتر دائم، وهو ما قد يؤدي إلى أضرار صحية طويلة الأمد على القلب، والجهاز المناعي، وحتى النمو العقلي والنفسي.
أما في الدول النامية، فقد كانت الدراسات أقل، لكنها أسفرت عن نتائج مهمة، ففي دومينيكا، لم يكن لتحسين الظروف المادية مثل السكن أو الطعام تأثير مباشر على مستويات الكورتيزول، لكن الأطفال الذين يعيشون في أسر غير مستقرة عاطفياً أظهروا مستويات توتر أعلى، كذلك، في نيبال، وُجد أن الأطفال بلا مأوى أو في مستوطنات غير قانونية يعانون من مستويات توتر أعلى من الأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة، ما يدل على أثر البيئة الاجتماعية على التوازن الجسماني.
ومن العوامل المهمة التي تم ربطها بمستويات الكورتيزول المرتفعة لدى الأطفال هو اكتئاب الأم، فقد أشارت الدراسات إلى أن الأمهات الفقيرات، وخصوصاً المصابات بالاكتئاب، يقدمن رعاية أقل لأطفالهن، ما يزيد من تعرض الطفل للتوتر وبالتالي ارتفاع الكورتيزول، كما أن الأطفال قد يتأثرون جينياً بهرمونات التوتر التي تتعرض لها الأم أثناء الحمل أو الطفولة المبكرة.
وبالتالي، تسلط هذه الدراسات الضوء على دائرة معقدة تربط بين الفقر، والبيئة الأسرية، والتأثير البيولوجي طويل الأمد على الأطفال… فارتفاع مستويات هرموني الكورتيزول والأدرينالين بشكل مزمن، يؤثر سلباً على صحتهم بشكل عام، فيضعف الجهاز المناعي، ما يجعل الجسم أكثر عرضة للأمراض والالتهابات، والأهم من ذلك، أنه يرتبط أيضاً بزيادة خطر الإصابة بالأمراض المزمنة مع التقدم في العمر، ما يجعل معالجة الفقر والضغوط النفسية من الأولويات الضرورية للحفاظ على صحة الأفراد على المدى الطويل.
في النهاية، يؤثر الفقر بشكل كبير على صحة الإنسان، خاصة في ظروف صعبة ومتدهورة مثل نموذج سوريا، الأمراض المزمنة تنتشر أكثر عند الفقراء بسبب قلة الرعاية الصحية وسوء التغذية والتوتر المستمر… لذلك، يتطلب الأمر حلولاً عاجلة من خلال توفير رعاية صحية أولية، أدوية وفحوصات مجانية، ودعم نفسي للأشخاص المتأثرين، ربما يمكن بهذه الإجراءات تحسين حياة الكثيرين وتقليل معاناتهم.
بقلم: لمى ابراهيم
اقرأ أيضاً: تقرير أممي: 90% من الشعب السوري تحت خط الفقر!