بعد سنوات من التحديات والعقوبات التي أثقلت كاهل الاقتصاد السوري، تتنفس الأوساط التجارية في سوريا والأردن، الصعداء، مع إعلان الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية التوصل إلى اتفاق تاريخي مع الجهات الأردنية المعنية، يقضي بإلغاء ضريبة الديزل البالغة 115 دولاراً المفروضة على الحافلات السورية المتجهة إلى الأراضي الأردنية، ومثلها على الحافلات الأردنية.
وهذا القرار، الذي يأتي امتداداً لسلسلة من التسهيلات المتبادلة، ليس مجرد إجراء إداري بسيط، بل هو بمثابة شريان حياة جديد يضخ الأمل في جسد الاقتصاد السوري المتعطش للتعافي، ويعيد للأردن دوره المحوري كبوابة تجارية ولوجستية للمنطقة.
تحولات جذرية في العلاقات التجارية بين البلدين
لم تكن العلاقات الاقتصادية بين سوريا والأردن تسير على وتيرة واحدة خلال العقد الأخير، فقبل سقوط النظام البائد، وتحديداً بعد عام 2011، شهدت هذه العلاقات تدهوراً ملحوظاً، حيث فرضت العقوبات الدولية على سوريا، ومن أبرزها قانون قيصر عام 2020، قيوداً صارمة على التعاملات التجارية والمالية، وحظرت التعامل مع الحكومة السورية في ما خص العطاءات والمشاريع المرتبطة بالبنية التحتية.
وقد انعكس هذا الواقع سلباً على الميزان التجاري بين البلدين، وأجبر شركات النقل والتجار على البحث عن بدائل مكلفة وغير فعالة، كاعتماد النقل البحري الذي استنزف الوقت والموارد.
كما كانت قرابة ألفي سلعة محظورة من التصدير إلى سوريا، في مقابل قيود سورية مشددة على الاستيراد من الأردن نتيجة شُح العملة الصعبة.
لكن المشهد تبدل بشكل دراماتيكي بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع العقوبات كاملة عن سوريا، وهو إعلان استقبله الأردن بتفاؤل واضح، وبدأ العمل فوراً على إعادة بناء جسور التعاون الاقتصادي مع دمشق.
ووافق مجلس الوزراء الأردني على الإطار العام لإنشاء مجلس للتنسيق الأعلى بين المملكة وسوريا، برئاسة وزيري خارجية البلدين، بهدف تعزيز التعاون في مجالات حيوية مثل التجارة، النقل، الطاقة، والصحة.
وهذا المجلس، الذي سيجتمع دورياً، يؤشر إلى رغبة جدية في تحقيق التكامل الاقتصادي بدلاً من التنافس.
إلغاء ضريبة الديزل: مكاسب مباشرة وغير مباشرة
إلغاء ضريبة الديزل هو أحدث حلقة في سلسلة من التسهيلات المتبادلة التي بدأت تظهر ملامحها منذ أذار الماضي بإعفاء الأردن للشاحنات السورية من الرسوم والبدلات المفروضة عليها.
وبحسب الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في سوريا، فإن هذا القرار يسهم بشكل مباشر في تخفيف الأعباء المالية عن شركات النقل، وهو ما سينعكس إيجاباً على تكاليف الشحن وبالتالي على أسعار السلع للمستهلك النهائي.
والأهم من ذلك، أنه سيؤدي إلى تنشيط حركة النقل البري بين البلدين، مما يعزز من التبادل التجاري ويسهل حركة البضائع والمسافرين.
اقرأ أيضاً: المصارف السورية على مفترق طرق: خطط إنقاذ طموحة تصطدم بواقع وتحديات مريرة
آراء الخبراء والمسؤولين: رؤى استراتيجية لمستقبل مشرق
يرى رئيس غرفة تجارة الأردن، خليل الحاج توفيق، أن قرار رفع العقوبات سيفتح “آفاقاً واسعة أمام الدول المجاورة، وعلى رأسها الأردن، نظراً إلى طبيعة العلاقة الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية بين البلدين”.
ويؤكد أن عودة النظام المصرفي السوري إلى المنظومة المالية الدولية ستمكن من تبادل الحوالات المالية بحرية، وتسهيل انتقال الأموال، وهو ما كان يشكل عائقاً رئيسياً في السابق.
كما يتوقع الحاج توفيق دوراً محورياً للأردن في مرحلة إعادة الإعمار، خصوصاً في مشاريع البنية التحتية وإعادة تأهيل النظام المصرفي السوري، نظراً للخبرة العميقة التي يتمتع بها الجهاز المصرفي الأردني.
ومن جهته، يشير الخبير الاقتصادي المهندس موسى الساكت إلى أن “رفع العقوبات يشكل فرصة استراتيجية لإعادة تموضع الأردن كمحور تجاري ولوجستي في المنطقة”، ويعزز من فرص المنتجات الوطنية الأردنية للتصدير إلى سوريا.
ويضيف أن “عودة سوريا إلى المشهد الاقتصادي الإقليمي تعني فتح خطوط النقل البري بين الأردن وتركيا وأوروبا، وأيضاً دول الخليج عبر الأراضي السورية”، مما ينعكس إيجاباً على تكاليف الشحن والوقت، ويعزز من تنافسية المنتجات الأردنية.
ويذكر الساكت أن تجارة الترانزيت وحدها تجاوزت حاجز 700 مليون دولار قبل عام 2011، مؤكداً أن استئناف هذا النوع من التجارة يعزز من نشاط قطاع الشحن ويستفيد من إعادة فتح المعابر.
وبدوه، يؤكد وزير النقل السوري، يعرب بدر، أن سوريا تولي أهمية كبرى لتطوير علاقاتها مع الأردن، وخاصة في قطاع النقل، الذي يعد ركيزة أساسية في دعم التبادل التجاري وتسهيل الاستثمارات.
وكشف عن وجود خطة لتأهيل البنية التحتية لخط سكة الحديد الحجازي داخل الأراضي السورية، الذي سيسهم في تسهيل حركة البضائع والركاب بين البلدين.
كما أكد جاهزية الموانئ السورية، وتحديداً مرفأ طرطوس، لاستقبال السفن المحملة بالبضائع الأردنية.
مؤشرات إيجابية على الأرض
خلال الشهرين الأولين من العام الحالي، أعلنت المملكة الأردنية ارتفاع صادراتها إلى سوريا بنسبة 482%، لتصل قيمتها إلى 35.377 مليون دينار أردني.
كما شهد معبر جابر–نصيب الحدودي عبور 49,679 شاحنة منذ بداية عام 2025، أي ما يعادل أربعة أضعاف عددها في الفترة نفسها من العام الماضي، في مؤشر واضح على النشاط المتزايد بفضل التسهيلات الأخيرة.
وتشهد المنطقة الحرة السورية–الأردنية المشتركة بدورها حركة تجارية نشطة جداً، حيث تم توقيع 88 عقدًا استثماريًا وتشغيليًا منذ إعادة افتتاحها مطلع العام، وسط استعداد أكثر من 800 مستثمر لمباشرة أعمالهم بانتظار استكمال الموافقات.
ولا يقل استئناف تصدير الخضار والفواكه الأردنية إلى سوريا أهمية، بعد توقف دام 13 عاماً، إلى جانب التوجيهات الملكية الداعية إلى دعم السوق السورية بالمنتجات الزراعية والصناعية، في تجسيد واضح للرغبة المشتركة في إعادة بناء الثقة وتعزيز التعاون الاقتصادي.
اقرأ أيضاً: جواز السفر السوري.. ما بين غلاء النظام البائد وأماني الحكومة الجديدة!
التكامل الاقتصادي: رؤية للمستقبل
تسعى سوريا والأردن إلى تحقيق تكامل اقتصادي بدلًا من التنافس، من خلال تعزيز عمليات الاستيراد والتصدير وتبادل الخبرات.
وتم تشكيل “لجنة مشتركة” تضم ممثلين عن الصناعيين من البلدين، مهمتها بحث القضايا والمعوقات، ودراسة آليات التبادل التجاري، والتشاركية، ودراسة الأسواق لوضع ورقة عمل لرفعها إلى الحكومتين.
ويؤكد نائب رئيس غرفة صناعة الأردن وعمان، هاني أبو حسان، أن الأردن يمكنه الاستفادة من سوريا في قطاعات مثل النسيج، الأجهزة الكهربائية، والقطاع الغذائي والتعديني، في حين كانت أهم الصادرات الأردنية إلى سوريا خاصة بالقطاعات الإنشائية.
و هذا التكامل، بحسب أبو حسان، سيحافظ على الصناعات السورية والأردنية ويمكنها، بالإضافة إلى تبادل الخبرات الفنية والتقنية.
على أعتاب مرحلة جديدة!
إن إلغاء ضريبة الديزل، وما سبقه من تسهيلات وما يليه من مبادرات، ليس سوى خطوة أولى على طريق طويل نحو إعادة بناء العلاقات الاقتصادية بين سوريا والأردن.
وهذه الخطوات تعكس رغبة حقيقية من كلا الجانبين في تجاوز تداعيات الماضي، وفتح آفاق جديدة للشراكة والتعاون.
فمع عودة سوريا تدريجياً إلى المشهد الاقتصادي الإقليمي، ومع التزام الأردن بدعم شقيقته في هذه المرحلة، يمكننا أن نتوقع أن تشهد السنوات القادمة نمواً ملحوظاً في التبادل التجاري والاستثماري، مما سيعود بالنفع على الشعبين الشقيقين ويعزز من استقرار المنطقة بأسرها.
إنها بداية لمرحلة جديدة، عنوانها التعاون والتكامل، من شأنها أن تعيد لسوريا عافيتها الاقتصادية، وتدعم الأردن في دوره المحوري بالمنطقة.