في مشهد سوري يشهد تحولات جذرية بعد إسدال الستار على مرحلة السلطة السابقة وتشكيل حكومة جديدة، أبت واشنطن إلا أن تُبقي على «صفارة الإنذار» مرفوعة، ممددة حالة الطوارئ الوطنية الخاصة بسوريا، في خطوة تكشف عن تمسّكها بنظرة أمنية واستراتيجية إلى هذا الملف، بصرف النظر عن تبدّل الأسماء والمواقع في هرم السلطة السورية.
منذ أكثر من عقدين، لم تُغلق الولايات المتحدة «الملف السوري» ولم ترفع يدها عنه، بل واصلت التجديد السنوي لحالة الطوارئ، بداية من إدارة جورج بوش الابن عام 2004 وحتى الرئيس دونالد ترامب في نسخته الجديدة عام 2025. وليست هذه الممارسة السياسية مجرد إجراء إداري دوري، بل هي رسالة أميركية مكرّرة مفادها أن التغيير السياسي في سوريا لم يبلغ بعد الحد الكافي لتغيير موقف واشنطن.
حالة الطوارئ: من بوش إلى ترامب
في 11 أيار 2004، أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن فرض حالة الطوارئ على سوريا بموجب الأمر التنفيذي رقم 13338، على خلفية اتهامات بدعم الإرهاب، وزعزعة استقرار الجوار الإقليمي، وتطوير برامج أسلحة دمار شامل. ومنذ ذلك التاريخ، تحوّل هذا القرار إلى «إطار تشريعي» دائم تم من خلاله توسيع نطاق العقوبات لتشمل أفراداً وكيانات سورية مختلفة.
توالت الإدارات الجمهورية والديمقراطية على البيت الأبيض، واستمر معها تجديد هذا القرار، حتى جاء آخر تمديد رسمي في 8 أيار 2025 من قبل الرئيس دونالد ترامب، رغم الانعطافة السياسية التي شهدتها دمشق بسقوط سلطة بشار الأسد السابق وتشكيل حكومة جديدة.
اقرأ أيضاً: الصين وأمريكا: هل سنشهد سياسة «عدم انحياز» جديدة لسوريا؟!
«حكومة جديدة.. عقلية قديمة؟»
أثار هذا التمديد الأميركي تساؤلات عديدة حول مدى رضا واشنطن عن المسار الانتقالي الجديد في سوريا، وما إذا كانت تعتبر حكومة الرئيس الانتقالي احمد الشرع بديلاً حقيقياً عن نظام الأسد، أم مجرّد وجه جديد بسياسات قديمة. فحسب تعبير ترامب في بيان التمديد، ما تزال «التهديدات غير العادية» حاضرة، بدءاً من هشاشة الحكم، ومروراً بالجماعات المتطرفة، وصولاً إلى ملف الأسلحة الكيميائية.
بهذا المعنى، تبدو الحكومة الانتقالية أمام اختبار مزدوج: إثبات جديتها داخلياً، وكسب ثقة المجتمع الدولي، وتحديداً واشنطن، التي لا تزال ترى في سوريا مسرحاً مفتوحاً لصراعات النفوذ والمصالح الإقليمية.
اختبار أم فرصة مشروطة؟
يرى المحلل السياسي المقيم في واشنطن، عصام خوري، أن تمديد حالة الطوارئ هو إشارة واضحة بأن إدارة ترامب لم تمنح الحكومة السورية الانتقالية صك الثقة بعد، بل تنظر إليها ككيان تحت المراقبة. ويصف خوري التمديد الأخير بأنه أشبه بـ«فترة اختبار»، تُمنح فيها حكومة الشرع مهلة لإثبات التزامها بجملة من الشروط والمطالب الأميركية، والتي وصل عددها مؤخراً إلى من 12 مطلباً.
وبحسب خوري، تشمل هذه المطالب قضايا شائكة، أبرزها ضبط الجماعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة، وإنهاء وجود المقاتلين الأجانب، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان. في المقابل، يشير إلى أن المهلة الزمنية الممنوحة قد تُفهم أيضاً على أنها «فرصة مشروطة» للانتقال إلى نهج سياسي أكثر شمولاً واستقراراً.
الاقتصاد رهينة التمديد
وبعيداً عن المشهد السياسي، يحمل قرار التمديد تأثيرات اقتصادية ملموسة، لا سيما فيما يتعلق بالقيود المفروضة على الطيران السوري والتبادل التجاري. ويؤكد خوري أن هذه القيود تشكّل ضغطاً كبيراً على الاقتصاد السوري، خصوصاً في ظل الجهود التي تبذلها الحكومة الجديدة لإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات.
كما أن التمديد له تبعات قانونية داخل الولايات المتحدة نفسها، إذ يُستخدم كوثيقة مرجعية في قضايا اللجوء والهجرة، ما يعكس استمرار تصنيف سوريا كدولة غير آمنة.
بين الابتزاز السياسي والحسابات الإقليمية
بالمقابل، يقدم الكاتب والباحث السياسي مصطفى النعيمي قراءة مختلفة، مشيراً إلى أن التمديد الأميركي يأتي ضمن سياسة «خطوة مقابل خطوة» التي تعتمدها واشنطن، بمعنى أن أي تخفيف للعقوبات أو إنهاء لحالة الطوارئ سيكون مرتبطاً بتحقيق مطالب محددة.
ويرى النعيمي أن واشنطن تستخدم هذا الملف كورقة ضغط سياسية لتحقيق مكاسب إضافية في المنطقة، وخاصة فيما يتعلق بترتيب الأوضاع الأمنية بما يضمن انسحاباً آمناً ومستقراً لقواتها من سوريا، دون أن تترك فراغاً قد تملؤه أطراف أخرى.
اللاجئون والعقوبات: معاناة مضاعفة
يشير النعيمي إلى أن الحكومة السورية الجديدة بدأت خطوات فعلية لإعادة اللاجئين، حيث تجاوز عدد العائدين 600 ألف شخص، في ظل توقعات بوصول الرقم إلى المليون في مطلع العام القادم. غير أن العقوبات الأميركية تجعل من هذه العودة تحدياً إنسانياً قاسياً، خصوصاً مع دمار البنية التحتية في مناطق العودة.
وحسب النعيمي، لا ينظر إلى سوريا بوصفها فقط بؤرة صراع محلي، بل كجزء من معادلة دولية ترتبط بخطط نقل الغاز الخليجي إلى أوروبا في مواجهة النفوذ الروسي، ما يمنح الملف السوري بعداً جيوسياسياً عميقاً.
هذا وختم النعيمي بالقول إن كثيراً من الأسباب التي فرضت العقوبات لم تعد قائمة، وبالتالي فإن المرحلة الحالية تفرض على واشنطن مراجعة سياساتها، والانخراط في حل تدريجي يراعي مصالح السوريين ويضمن استقرار المنطقة.