لا شك أن هناك أزمة ثقافية قائمة بين المواطن السوري والاقتصاد، تعود في جذورها إلى تصور راسخ لدى المواطن بأن السياسات الاقتصادية لا تعنيه بشكل مباشر، بل هو فقط يتحمل نتائجها. والبعض الآخر يرى الاقتصاد لغة معقدة، صعبة الفهم، فيفضل الابتعاد عنها، فيما يعتقد آخرون أن الأخبار الاقتصادية موجهة فقط لفئة التجار ورؤوس الأموال.
لكن السؤال الجوهري هنا: هل المشكلة في المواطن؟ أم في غياب صحفيين اقتصاديين قادرين على تبسيط القضايا الاقتصادية بلغة قريبة من فهم عامة الناس؟
تحرك أكاديمي: أولى خطوات كلية الإعلام
يبدو أن وزارة الإعلام بدأت تدرك هذه الثغرة، واتخذت خطوة مهمة نحو معالجتها بإطلاق أول دورة تدريبية في الصحافة الاقتصادية، بالتعاون مع معهد مصداقية الصحافة في واشنطن، إذ يعد معهد مصداقية الصحافة مشروع غير ربحي يتبع لشركة Accuracy Productions كجزء من المسؤولية الاجتماعية، وهو مكرس لتلبية احتياجات الصحافيين من خلال إنشاء قطاع إعلامي محترف.
كما شارك بنك الشام برعاية دورة “مبادئ الصحافة الاقتصادية”، وقدم فيها محاضرة خاصة بالتمويلات الإسلامية من قبل مدير إدارة التمويل لدى بنك الشام السيد “غياث أبو شامة”، وبدوره أكد البنك التزامه بوضع كامل قدراته في خدمة الإعلام والصحفيين، وأكد على أهمية الإعلام المتخصص في تعزيز الوعي الاقتصادي، وتقديم معلومات دقيقة وموثوقة للمجتمع.
رغم أن مادة “الصحافة الاقتصادية” تندرج ضمن مقرر “الصحافة المتخصصة” في الكلية، إلا أن التعليم يقتصر غالباً على الإطار النظري، لذا جاءت هذه الدورة لسدّ الفجوة العملية، وتزويد الطلبة بأساسيات العمل الصحفي الاقتصادي الميداني.
الدورة التي استمرت لعدة أيام استهدفت بناء كوادر صحفية سورية قادرة على فهم الاقتصاد المحلي والدخول في منظومة اقتصاد السوق، وقد تم إجراء اختبارين للمشاركين: الأولي كشف محدودية المعلومات لدى أغلبهم، بينما أظهر الاختبار النهائي تحسناً ملحوظاً في الفهم والاستيعاب.
وقد أجمع المشاركون على أن الدورة أغنتهم بمعلومات جديدة وضرورية، وأشادوا بالشق العملي الذي تضمن زيارات ميدانية إلى شركات تأمين، مصارف، وبورصة دمشق.
ما هي الصحافة الاقتصادية؟
الصحافة الاقتصادية هي أحد فروع الصحافة المتخصصة، تُعنى بتغطية وجمع وتحليل وتفسير التغيرات الاقتصادية داخل المجتمعات، تبدأ اهتماماتها من التمويل الشخصي، وتشمل أيضاً الأسواق المحلية، قطاع الأعمال، أداء الشركات، وحتى السياسات الاقتصادية العامة.
وتنتج هذه الصحافة مواداً إذاعية، تلفزيونية، ومكتوبة تساعد في رفع وعي المواطنين، وتوضح أثر السياسات الاقتصادية على حياتهم اليومية، سواء في مشاريعهم الشخصية أو في وظائفهم ضمن الشركات.
كيف يتم دمج الاقتصاد بالإعلام؟
يمثل دمج الاقتصاد بالإعلام خطوة ضرورية لتعزيز وعي الجمهور بالقضايا الاقتصادية وتبسيطها لهم. ويمكن تحقيق هذا الدمج عبر عدة طرق رئيسية، منها:
1. تدريب الصحفيين على الصحافة الاقتصادية، تُعد هذه الطريقة من أبرز الأساليب المعتمدة، حيث تقوم المؤسسات ومراكز التدريب الإعلامي بتدريب الصحفيين على الصحافة الاقتصادية، ويتم هذا التدريب إما على يد صحفيين اقتصاديين محترفين، أو من خلال خبراء اقتصاديين يقدمون للصحفيين المعلومات الأساسية اللازمة لفهم وتحليل القضايا الاقتصادية بشكل دقيق وبلغة مبسطة.
2. الطريقة الثانية تتمثل في تدريب الخبراء الاقتصاديين والمختصين على مهارات الإعلام الأساسية، ومن ثم تسليمهم مهمة تقديم برامج اقتصادية إعلامية، إما بمفردهم أو بالتعاون مع إعلاميين متخصصين.
ومن أبرز الأمثلة على هذا النموذج برنامج “المخبر الاقتصادي” الذي يقدمه الدكتور أشرف إبراهيم، الحاصل على دكتوراه في الاقتصاد، والذي نجح في جذب جمهور واسع على منصة يوتيوب، حيث يتجاوز عدد متابعي قناته أكثر من مليون مشترك، بفضل أسلوبه المبسط والجذاب في تقديم المحتوى الاقتصادي.
3.تتمثل الطريقة الثالثة في إقامة الندوات والمؤتمرات التي تناقش مفهوم الصحافة الاقتصادية وأهميتها وسبل تطويرها. ومن الأمثلة على ذلك ندوة “اقتصاديات الإعلام” التي نظمتها جامعة الملك سعود، وركزت على العلاقة بين الإعلام والاقتصاد، ودور الصحافة في تفسير الواقع الاقتصادي.
4. الاستفادة من الإعلام الرقمي والمنصات الجديدة، إذ يمكن أيضاً استخدام أدوات الإعلام الرقمي لإنشاء محتوى اقتصادي مبسط وجذاب، مثل الفيديوهات القصيرة التي تشرح المفاهيم الاقتصادية بلغة بصرية سهلة. كما يمكن استضافة الخبراء الاقتصاديين في برامج إذاعية وتلفزيونية لمناقشة التطورات الاقتصادية بشكل مباشر وسلس.
الصحافة الاقتصادية ودول العالم الثالث
الاهتمام بهذا النوع من الصحافة ما زال ضعيفاً في دول العالم الثالث، بينما يلقى اهتماماً أكبر في الدول الصناعية، إذ تفرد الدول المتقدمة تمويلاً كبيراً لمثل هذه الصحف، مما يفرع من مستواها وتقدمها مثل صحيفة “وول ستريت جورنال”، مجلة المال الأميركية، مجلة الإيكونوميست البريطانية، ومجلة فوربس الأميركية، وتتفرع منها شبكة رقمية متخصصة لرائدات الأعمال.
دول الخليج العربي أدركت مؤخراً أهمية الصحافة الاقتصادية، تماشياً مع التطورات العالمية والانخراط المتزايد في الأسواق المالية والطاقة، لذا قدمت مبادرات خاصة بهذا المجال ومنها إطلاق قناة “اقتصاد الشرق مع بلومبرغ”، وتفعيل منصة “العربية بيزنس” كتردد مستقل، وأيضاً برنامج الاقتصاد والناس الحواري على قناة الجزيرة.
يقول أحد الصحفيين السعوديين المتخصصين في أسواق الطاقة إن الصحافة العربية تتجه بقوة نحو الصحافة المتخصصة، وعلى رأسها الصحافة الاقتصادية، باعتبارها فرصة كبيرة لتطوير العمل الصحفي ومجالاً واعداً للباحثين عن التخصص.
اقرأ أيضاً: اتحاد الصحفيين السوريين.. هل يعيد المكتب المؤقت صياغة مستقبل الإعلام؟
الصحفي الاقتصادي: المهنة والدور
الصحفي الاقتصادي ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل هو مترجم لواقع معقّد بلغة يفهمها المواطن، من خلال تحليلاته وتفسيره للأرقام والسياسات، يساهم في تشكيل وعي عام حول القضايا الاقتصادية التي تمس حياة الناس.
ويمتلك هذا الصحفي أدوات متنوعة من الصحافة الاستقصائية، إلى التقييم، النقد، والتحقيقات، وهو معنيّ بإبراز مكامن الخلل أو الفساد في المنظومة الاقتصادية، والمساهمة في مناقشة سبل الإصلاح والتطوير.
لكن السؤال الأهم: ما حدود حرية الصحفي الاقتصادي؟ وهل هناك قانون أو مؤسسة تحميه في حال تعرضه للمضايقات؟
الصحافة الاقتصادية في سوريا… بين الماضي والحاضر
في عهد النظام السوري السابق، كانت هناك بعض المحاولات الصحفية لتغطية الشأن الاقتصادي، من خلال صفحات أو زوايا ضمن صحف مثل صحيفة البعث (قسم الاقتصاد)، صحيفة تشرين، صحيفة الوطن السورية، وصحيفة الاقتصادية السورية، إلا أن معظم هذه التغطيات كانت تقليدية، تفتقر للتحليل أو الطرح العميق، ورغم وجود بعض البرامج الاقتصادية التلفزيونية، إلا أنها لم تحظَ باهتمام حقيقي من الجمهور.
أما اليوم، وبعد التغيرات السياسية في البلاد، فقد بدأنا نتعرف على بعض المنصات السورية المتخصصة التي كانت موجودة منذ سنين مثل مجلة “الاقتصادي”، مجلة “هارفارد بزنس ريفيو العربية”، وهما يصدران عن شركة هيكل ميديا التي أسسها ويترأسها حالياً وزير الاتصالات والتكنولوجيا السوري الدكتور عبد السلام هيكل، وتأسست الشركة عام 2003 في أبوظبي، ولها مكاتب في السعودية، لبنان، لندن، وحالياً سوريا.
تملك الشركة شراكات مهمة مثل تعاونها مع النسخة العربية من Harvard Business Review، وتصدر مجلات متخصصة أخرى مثل MIT Technology Review النسخة العربية، Popular Science – العلوم للعموم.
يمكن القول إننا نعيش بداية تحول تدريجي في الصحافة المتخصصة في سوريا، بدليل إطلاق دورات تدريبية تطبيقية في الصحافة الاقتصادية، وجود وعي حكومي بضرورة هذا النوع من الصحافة، وتولي شخصيات ذات كفاءة وإدراك اقتصادي مواقع اتخاذ القرار.
كل ذلك يشير إلى إمكان تطوير الصحافة الاقتصادية محلياً، مما يساعد المواطن السوري على فهم الواقع الاقتصادي الذي يعيش فيه، ويمنحه أدوات أفضل لاتخاذ قرارات مالية وشخصية مبنية على الوعي والمعرفة.
اقرأ أيضاً: نادي الإعلاميين السوريين في قطر: شراكة استثنائية بين الخارج والداخل
