في تقرير مطوّل ومفصّل نشرته صحيفة «نيويورك تايمز NYT» الأميركية يوم الإثنين 30 حزيران 2025، كتبت الصحفية فيفيان نيريم من الرياض عن التحوّل الكبير في موقف دول الخليج تجاه سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد، ووصفت المرحلة الحالية بأنها «فرصة لإعادة تشكيل النظام الإقليمي»، نقلاً عنق أحد الأكاديميين الخليجيين.
هذا التحليل يسلّط الضوء على ما ورد في التقرير ويعيد ترتيبه سياقياً ضمن قراءة سياسية أشمل لموقع سوريا الجديد ضمن لعبة النفوذ في الشرق الأوسط، مستفيداً من مضمون التقرير ومقتطفاته.
الخليج أول الواصلين: سوريا ساحة استثمار ونفوذ
تشير نيويورك تايمز في تقريرها إلى أن دول الخليج كانت «أول من بادر إلى مساعدة سوريا على بدء إعادة الإعمار» بعد انهيار النظام في كانون الأول، موضحةً أن هذه السرعة ليست مجرد بادرة إنسانية، بل تعكس استشعاراً حقيقياً لفرصة جيوسياسية لإبعاد لملء الفراغ.
وتصف الكاتبة التحوّل بأنه «حافز وضمان إضافي» للمستثمرين الخليجيين، خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي ترامب في أيار عن تعليق العقوبات الأمريكية على سوريا خلال زيارته إلى السعودية. هنا، يصبح القرار الأمريكي بمثابة إشارة انطلاق رسمية للاستثمارات الخليجية نحو دمشق، وكذلك نحو طرطوس، بما يشمل توقيع شركة «دي بي وورلد DP World» الإماراتية – وهي إحدى الشركات الفرعية لشركة دبي العالميّة التي تعدّ الذراع الاستثماري لحكومة دبي – اتفاقاً بقيمة 800 مليون دولار لتطوير ميناء طرطوس.
الخليج يتمدّد
ترى الصحفية أنّ النظام الإيراني الذي «وفّر للأسد الدعم العسكري والمالي» طوال سنوات الحرب، بات اليوم في موقف تراجعي واضح. وتضيف أن طهران فقدت حليفاً محورياً كان جزءاً من «هلالها الاستراتيجي» الممتد من إيران إلى المتوسط.
وتذهب الصحيفة للقول بأنّه، على الرغم من أن دول الخليج، رغم توجهها نحو تطبيع العلاقات مع إيران في السنوات الأخيرة، لا تزال «تخشى من الشبكات الميليشياوية التي ترعاها طهران» ومن إمكانية تصدير التوترات إلى الداخل الخليجي.
من هنا، يصبح دعم النظام الجديد في سوريا، وفق تقرير نيويورك تايمز طبعاً، محاولة خليجية مزدوجة: طمأنة للداخل وصدٌّ لتوغّل خارجي، خصوصاً أن الحكومة السورية الجديدة «اختارت النأي بالنفس» عن الحرب الأخيرة بين «إسرائيل» وإيران.
أحمد الشرع: من الجهاد إلى البراغماتية
من أبرز محاور التقرير تسليط الضوء على شخصية الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع. تصفه نيريم بأنه «مقاتل سابق تحوّل إلى سياسي يرتدي بدلة رسمية»، وتذكّر القارئ بأن الشرع وُلد في السعودية، وقاتل في بداياته مع جماعات جهادية، بعضها صنّفها السعوديون لاحقاً كـ«تنظيمات إرهابية».
لكن التحول الذي طرأ على الشرع، كما تشير الصحفية، يتقاطع بوضوح مع التحول في الرؤية الخليجية: من المواجهة العقائدية إلى التفاهم البراغماتي. ويقول الشرع نفسه في مقابلة مع مجلة Jewish Journal مقتبسة في التقرير:
«لم يعد الأمر أيديولوجياً… بل عن إعطاء الناس سبباً للبقاء، سبباً للعيش، وسبباً للإيمان».
السعودية والإمارات وقطر: وحدة المصلحة بعد سنوات الانقسام
تشير نيريم إلى نقطة مهمة: حتى وقت قريب، كانت دول الخليج منقسمة حول المسألة السورية. قطر دعمت المعارضة، بينما سعت الإمارات والسعودية إلى إعادة العلاقة مع النظام السابق. لكن بعد سقوط الأسد، حصل «تحوّل سريع» نحو دعم النظام الجديد، وهذا ما وصفه الدكتور بدر السيف – الأكاديمي الكويتي – في التقرير بأنه «سوريا توحّدنا».
وتضيف نيريم أن هذا التحول في الموقف الخليجي لا يعكس فقط تغيراً في السياسة الخارجية، بل هو نتيجة لقناعة متزايدة بأن «التنمية الاقتصادية والاستقرار السلطوي» باتا النموذج المفضل للمنطقة، في ظل فشل النماذج التي أعقبت الربيع العربي.
من الخراب إلى الحياة: سوريا الجديدة كقصة أمل نادرة
في ختام تقريرها، تنقل نيريم صوت رجل سوري يُدعى محمد أربش، يقف بين أنقاض منزله في عين ترما ويقول:
«أنا ممتن لأنني ما زلت على قيد الحياة… لا يوجد هنا شيء، نعتمد على مياه الآبار وكهرباء خاصة».
صورة تختزل حجم الدمار، لكنها – بحسب التقرير – تعبّر عن لحظة استثنائية من الانفراج بعد سنوات الحرب.
وتقتبس أيضاً تصريحاً مؤثراً لرجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور، الذي قال:
«سوريا، رغم جراحها، تثبت أنها ما زالت أرض الحياة والعمل والطموح… لمن يؤمن بهذه النهضة: استثمروا في عقول سوريا، في طاقتها، وفي شعبها النبيل الذي لا يعرف الهزيمة».
في الختام…
يعكس تقرير نيويورك تايمز – ومن خلاله هذا التحليل – أن الخليج لم يتحرك عشوائياً تجاه سوريا الجديدة، بل بعد قراءة دقيقة لتبدّل التوازنات. الاستثمارات، والرحلات الجوية، وسداد الديون، جميعها أدوات سياسية قبل أن تكون اقتصادية.
سوريا لم تعد، في نظر الخليج، مجرد دولة جريحة. إنها رهان استراتيجي، ونموذج اختباري لمشروع جديد في الشرق الأوسط: الاستقرار مقابل التنمية، وبأقل قدر ممكن من الفوضى.
اقرأ أيضاً: وادي السيليكون السوري: استثمار قد يفتح فصلاً جديداً في الاقتصاد السوري
اقرأ أيضاً: إعادة تشغيل معمل «العربية»: خطوة عملية لإصلاح قطاع الإسمنت