أعمال واستثمار

الحرف والحرفيين في سوريا.. تراث يصارع من أجل البقاء!

الكاتب: أحمد علي

وسط سوقٍ دمشقي قديم تفوح منه رائحة الياسمين والمشغولات النحاسية، يجلس حرفيٌّ عجوز أمام دكّانه الصغير الذي ورثه عن آبائه. حوله تُعرض قطع فنّية زخرفتها أنامله بصبر وإتقان على مدى عقود. كان هذا المشهد يوماً ما مألوفاً في أغلب المدن السورية التي ازدحمت أسواقها بالحرفيين وروّادهم من أهل البلد والسياح. تلك الحرف التقليدية التي شكّلت جزءاً أصيلاً من هوية سوريا الثقافية لطالما قاومت الاندثار عبر الأجيال، لكنها اليوم تجد نفسها في مواجهة تحديات غير مسبوقة تهدد استمرارها. فسنوات الحرب الطويلة وما خلّفته من دمار، إضافة إلى أزمات اقتصادية خانقة وعزلة دولية، أرخت بظلالها الثقيلة على واقع الحرفيين وأعمالهم اليدوية. وفي خضم هذه التحولات، بات التساؤل مُلحّاً: ما حال الحرف والحرفيين في سوريا اليوم؟ وكيف يصمد إرثهم العريق أمام عواصف الحاضر العاتية؟

الحرف والحرفيين في سوريا.. بين عبق التراث وشبح الاندثار

تمثّل الحرف التقليدية في سوريا إرثاً حضارياً نابضاً بالحياة، غير أن هذا الإرث بات يواجه واقعاً مؤلماً ينذر بتلاشيه تدريجياً. يصف أحد الباحثين واقع الحرف اليوم بقوله إنها «تموت وتتلاشى، نتيجة الظروف التي تعيشها البلاد من حصارٍ جائرٍ وضعف القدرة الشرائية». فقد أثرت الحرب المستمرة وما رافقها من أزمات معيشية على قدرة السوريين على اقتناء المنتجات الحرفية، إذ انصرف معظم المواطنين إلى تأمين الضروريات الأساسية في ظل تدهور الدخل وارتفاع الأسعار الجنوني. وشكّل الحصار الاقتصادي والعقوبات تحدياً إضافياً أمام الحرفيين؛ فالمواد الأولية المستوردة باتت شحيحة ومرتفعة التكلفة، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي والمحروقات الذي شلّ ورشاتهم. في حلب مثلاً، ارتفعت أسعار خامات كالحديد والفحم والأكسجين المستخدم باللحام بحوالي 400% مقارنة بما قبل الحرب، ومع ذلك لم توفر الجهات المعنية الدعم الكافي سواء بتأمين الخامات بأسعار معقولة أو الكهرباء للورش.

كذلك خلّفت سنوات الصراع دماراً واسعاً في أسواق الحرف التراثية. فالمدينة القديمة في حلب – التي كانت درّة الصناعات التقليدية ولقّبت قديماً بعاصمة الاقتصاد السوري – تعرضت أسواقها للتخريب والحرق والنهب، ما أجبر الكثير من الحرفيين على إغلاق محالّهم أو الهجرة خارج البلاد. ويشير حرفيون في حلب إلى أن بعض المهن العريقة هناك اندثرت فعلياً أو على وشك الزوال؛ فعلى سبيل المثال تراجع عدد ورش الحدادة اليدوية إلى سبع ورش فقط في سوق باب الحديد التاريخي. أما سوق النحّاسين الشهير في حلب القديمة فأصبح أثراً بعد عين، ولم يعد فتح بعض محالّه سوى لغايات إعلامية دعائية، إذ إن الحرفة ذاتها لم تعد مجدية اقتصادياً لأصحابها بعد غياب السياح وارتفاع أسعار النحاس. يقول أحد أقدم نحّاسي حلب بحسرة إن هذا السوق العريق “لن يستعيد عافيته” وإن حرفة النحاس التي اشتهرت بها المدينة “ستندثر” إذا استمرت الظروف الحالية.

ولا تقتصر التحديات على تبعات الحرب والاقتصاد فقط، بل تشمل متغيرات اجتماعية وثقافية أيضاً. فالحرف التقليدية تعاني من عدم قدرتها على مواكبة متطلبات العصر الحديث من جهة التصميم والابتكار، ما قلّل الإقبال عليها بين الشباب. ويرى خبراء التراث أن جيل الشباب يعزف عن تعلّم هذه المهن لأنها لم تعد تلبي طموحاته أو تؤمّن له دخلاً مجزياً. ومع غياب المعاهد المتخصصة التي تحتضن المواهب الناشئة وتنقل أسرار الصنعة إليهم، انقطع حبل توريث المهن بين الأجيال في كثير من العائلات الحرفية. هكذا تجد العديد من شيوخ الكار (وهو الوصف الذي يطلق على الكبار في المهنة) أنفسهم آخر حلقة في سلسة عائلاتهم المهنية، دون أن يسلّموا الشعلة لمن يليهم. أضف إلى ذلك افتقار قطاع الحرف للتنسيق مع المؤسسات التعليمية والسياحية والتجارية، وضعف الدعم الحكومي المباشر، ما جعل الحرفيين يعملون غالباً بشكل فردي في معزل عن الخطط الوطنية الشاملة.

وحصيلة هذه العوامل جميعاً كانت تراجعاً حاداً في أعداد الحرفيين النشطين وفي حجم إنتاجهم، وتعرّض عشرات الحرف التراثية لخطر الانقراض بعد أن كانت يوماً مصدر فخرٍ واعتزازٍ للسوريين.

حرف سوريا: فسيفساء إبداعية تمتد على كافة المناطق

رغم الواقع القاتم، يبقى المشهد الحرفي في سوريا غنياً بتنوعه المنتشر في جميع أنحاء البلاد. فلكل منطقة سورية حرف تقليدية ميّزتها عبر التاريخ وأسهمت في ازدهارها الاقتصادي والاجتماعي. ففي دمشق مثلاً ازدهرت حرفة صناعة البروكار (الحرير الدمشقي) الفاخر الذي زيّن ملابس الملوك، وحرفة تطعيم الخشب بالصدف (الأرابيسك) وصناعة الزجاج المنفوخ يدوياً والموزاييك الدمشقي والمشغولات النحاسية المزيّنة. كثير من هذه المهن استمر نشاطه خلال الحرب وإن تقلّص، بفضل تمسّك الحرفيين الدمشقيين بإرثهم وإصرارهم على مواصلة الإنتاج ولو بكميات محدودة. قبل عامين فقط أُدرجت حرفة نفخ الزجاج التقليدي في دمشق على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي الذي يحتاج إلى صون عاجل، في اعتراف دولي بقيمة هذه الحرفة وضرورة حمايتها من الاندثار.

في حلب، تنوعت الحرف تاريخياً من صناعة صابون الغار الحلبي ذو الشهرة العالمية، إلى حياكة الأقمشة وتلوينها (مثل الأغباني والأقمشة الحريرية)، وصناعة الأدوات النحاسية والزجاج الملون والأرابيسك، وغيرها. ورغم ما شهدته حلب من دمار خلال الحرب، فإن إرادة الحياة بدأت تعود إلى أسواقها القديمة مؤخراً. فمع إعادة تأهيل بعض الخانات التاريخية وافتتاح المحالّ من جديد، عاد عبق الصابون والبهارات يختلط بأجواء السوق المسقوف كما كان في السابق. ويشير أحد تجّار سوق المدينة بحلب إلى تحسّن الحركة التجارية بنحو 80% عمّا كانت عليه قبل بضع سنوات، متوقعاً استمرار الانتعاش مع استتباب الأمن تدريجياً.

ولم تقف المصاعب في وجه عائلات حرفية عريقة كعائلة آل الجبيلي التي تعمل في صناعة صابون الغار منذ 700 عام؛ فقد أعادوا ترميم معملهم للمرة الثانية بعد الحرب والزلزال الأخير، ويخطط كبير العائلة لإنشاء متحف صغير داخل المصنع مخصّص لتوثيق صناعة الصابون وتاريخها، تقديراً لصمود هذه الحرفة عبر الأجيال. الجدير بالذكر أن منظمة اليونسكو أدرجت مؤخراً حرفة صناعة صابون الغار في حلب على قائمتها للتراث العالمي غير المادي عام 2024، مما يمنح صُنّاعها دفعة معنوية وفرصة لجذب الاهتمام والدعم الدولي لحمايتها.

أما في مناطق الشمال الغربي من سوريا، فلم تمنع ظروف الحرب وانعدام الموارد شريحة من الحرفيين من السعي لإبقاء شعلة التراث مضيئة. ففي مدينة إدلب على سبيل المثال، أقيم في أواخر عام 2023 معرض للأعمال اليدوية والحرفية في متحف المدينة، بمشاركة عشرات الحرفيين والفنانين المحليين. ورغم أن المنطقة كانت تتعرض لقصف متكرر قبيل المعرض أدى لتأجيل افتتاحه، أصرّ المنظمون على استئناف الفعالية بهدف إظهار الوجه المشرق لإدلب وإحياء أصالة حضارتها عبر عرض تحف فنية من إرث المنطقة كالسيوف والأواني النحاسية والزخارف العجمية.

توافد الجمهور بأعداد كبيرة ومنهم طلاب مدارس جاؤوا في رحلات منظّمة للاطلاع على هذا التراث، غير أن الواقع الاقتصادي الصعب حال دون تحقيق مبيعات تذكر. تقول شابة حرفية شاركت في المعرض إنها لمست إقبالاً واهتماماً من الزوار لكن حركة الشراء كانت شبه معدومة بسبب ضعف القدرة الشرائية لدى الناس وعدم إدراكهم لقيمة العمل اليدوي الفني. حرفي آخر متخصص في حرفة العجمي (الزخرفة الجصّية الملونة) عرض نحو عشرين قطعة ولم يبع أياً منها، ويرى أن السوق المحلية غير قادرة على استيعاب هذه المنتجات حالياً وأن الحل يكمن في التسويق إلى أسواق خارجية كدول الخليج العربي، محذراً من أن استمرار عزل الحرفيين السوريين عن الأسواق الخارجية “سوف يقضي على الإمكانيات المتوفرة” لديهم.

ولا تقتصر الحرف السورية على المدن الكبرى فحسب، بل تنتشر أيضاً في القرى والمناطق الريفية لكل محافظة. في الساحل السوري ازدهرت مثلاً صناعات الفخار اليدوي والحصير والنسيج البسيط، وفي الجزيرة السورية برزت صناعات السجاد الصوفي وأدوات الزراعة التقليدية، بينما اشتهرت مناطق الجنوب بحرفة قصّ الحجر وبناء البيوت التقليدية وغيرها. هذا الانتشار الجغرافي الواسع للحرف أكسب سوريا لوحة تراثية متنوعة الأطياف، لكن في الوقت نفسه فإن معاناة الحرفيين متشابهة أينما كانوا – من دمشق إلى أصغر قرية – تحت وطأة الأزمة الاقتصادية وارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع الدعم.

إحياء التراث الحرفي.. مبادرات وحلول ممكنة

أمام هذا الواقع الصعب، برزت في السنوات الأخيرة جهود حثيثة من قبل الجهات الرسمية وأيضاً مبادرات أهلية ومدنية تسعى إلى إنقاذ الحرف التقليدية وانتشالها من دائرة الخطر. ويدرك السوريون أهمية الصناعات الحرفية كقطاع اقتصادي يوفر فرص عمل ويساهم في الدخل، إضافة لكونه حامياً للهوية الثقافية.

بدوره، يلعب الاتحاد العام للحرفيين (وهو منظمة شعبية تأسست عام 1969) دوراً ملموساً في محاولة تنظيم القطاع والنهوض به. يوضح رئيس الاتحاد “ناجي الحضوة” أن الاتحاد يهتم ويدعم كافة الحرف على اختلاف أنواعها (التراثية والإنتاجية والخدمية وغيرها)، وقد بادر إلى إقامة دورات تأهيل وتدريب لخلق خبرات جديدة تزج في سوق الإنتاج. كما أنشأ الاتحاد حاضنات حرفية تكون كمراكز للتدريب والإنتاج والتسويق الداخلي والخارجي، بحيث يتم تصدير المنتجات يدعم الاتحاد ويسوّقها تحت اسمه. وبالتوازي، يسعى الاتحاد بالتعاون مع وزارة الاقتصاد وجهات أخرى إلى إقامة أسواق دائمة في كل المحافظات لعرض المنتجات الحرفية وخاصة المهددة بالانقراض، كما نظم معارض سنوية متنقلة وبازارات محلية لإيصال مصنوعات الحرفيين إلى الجمهور. وهذه الخطوات توفر للحرفي منصة لبيع منتجه والترويج له، مما يحفزه على الاستمرار في حرفته بدل تركها.

من جهة أخرى، ظهرت مشاريع تقودها منظمات أهلية وشبابية تهدف إلى توثيق الحرف والتعريف بها لدى الجيل الجديد. على سبيل المثال، مشروع “حرفة” الذي أطلقته الغرفة الفتية الدولية بدمشق عام 2023 بالتعاون مع وزارة الصناعة، يهدف لتسليط الضوء على الحرف التقليدية السورية وإحياء المهن اليدوية الدمشقية القديمة والترويج لمنتجاتها محلياً ودولياً.

وقد أقام المشروع معرضاً حياً في دمشق القديمة شارك فيه أكثر من 20 حرفة تراثية متنوعة، من رسم الزخارف على الزجاج إلى صناعة الفخار والبروكار والنحاس المكفّت وغير ذلك. تزامن المعرض مع دورات تدريب مجانية نظمتها لجنة دعم الحرف في وزارة الصناعة لتعليم الشباب حِرَفاً تقليدية مهددة كالخزف اليدوي والرسم على الزجاج وصنع الحلي، بمشاركة 80 طالباً وطالبة. مثل هذه المبادرات تُبرز شغف الجيل الجديد في التعرّف على تراث أجدادهم عندما تُتاح لهم الفرصة والأدوات المناسبة.

بالإضافة إلى ذلك، ساهمت منظمات دولية ومحلية في إبراز قضية الحرف السورية على الساحة العالمية. فإدراج عدة حرف سورية على قوائم التراث العالمي غير المادي في السنوات الأخيرة – كما حصل مع صناعة صابون الغار والزجاج اليدوي – أدى إلى زيادة الوعي العالمي بثراء التراث الحرفي السوري. كما قدمت بعض الدول الصديقة والمنظمات دعماً عينياً وتدريبياً للحرفيين، فمثلاً عملت مؤسسة البريد السورية بشكل طريف على توثيق الحرف بإصدار طوابع تذكارية تحمل صور المهن التقليدية تقديراً لمن يعملون بها.

رغم كل هذه الجهود، يدرك الخبراء والحرفيون أن الطريق لا يزال طويلاً لتحقيق نهضة حقيقية في هذا القطاع. الحلول المطروحة عديدة ولكن تنفيذها يتطلب إرادة ودعماً مستداماً. فمن بين التوصيات الرئيسية التي ينادي بها أهل الخبرة: تقديم إعفاءات ضريبية وجمركية لمواد الخام المستوردة المستخدمة في الحرف بحيث تنخفض تكاليف الإنتاج، واعتبار المنتجات الحرفية اليديوية سلعاً ثقافية تُعفى من الضرائب لتشجيع تسويقها. كذلك يُقترح توفير رعاية صحية وضمان اجتماعي للحرفيين كبار السن تقديراً لعطائهم ولتشجيع الشباب على دخول المهن الحرفية وهم مطمئنون لمستقبلهم.

ومن الأفكار أيضاً إنشاء قرى تراثية حرفية في كل محافظة تكون بمثابة متاحف حيّة وورش عمل مفتوحة للسياح والمتدربين، حيث تُعرض الحرف ويُباع إنتاجها للسياح والزوار. كما يطالب الحرفيون بإدخال بعض الحرف التراثية ضمن مناهج التعليم الفني والمدرسي لضمان انتقال المعرفة للأجيال الجديدة. ولا غنى عن التسويق الخارجي عبر فتح أسواق تصديرية للمنتجات الحرفية السورية بالتعاون مع الدول الصديقة، وتسهيل مشاركة الحرفيين في معارض دولية، لأن عودة السياحة إلى سابق عهدها قد تستغرق وقتاً ولا يمكن انتظارها وحدها كمصدر دخل.

في ختام المشهد، تقف الحرف السورية اليوم على مفترق طرق: فإما أن تثمر هذه الجهود والمبادرات في إنقاذ التراث الحرفي الغني وإعادته إلى دائرة الإنتاج كمصدر فخر وعائد اقتصادي، وإما أن تخبو هذه الفنون والصناعات تحت وطأة التحديات. غير أن بصيص الأمل يبقى حاضراً ما دام هناك حرفيون مخلصون لمهنهم يصمدون رغم كل شيء، وما دامت هناك هوية سورية متجذرة تستمد قوتها من تراث الأجداد. فلقد أثبت الحرفيون السوريون عبر التاريخ أنهم حراس الإرث الحضاري وحَمَلَة المشاعل التي تنير دروب الإبداع، ودور صنّاع القرار اليوم أن يمدّوا لهم يد العون كي لا تنطفئ تلك المشاعل. لإن إنقاذ حرف سوريا ليست مسألة اقتصادية وثقافية فحسب، بل هي أيضاً رسالة صمود وقدرة على النهوض من قلب المحن – تراث عريق يصارع من أجل البقاء، ومتى توفرت له الرعاية والدعم سيكون بلا شك أحد مفاتيح التعافي وإعادة إعمار الوطن بروح أصيلة ومتجددة.

اقرأ أيضاً: الصناعات النسيجية في سوريا.. ما حالها وأين وصلت الآن؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى