الحدود البرية التي تفصل وتجمع.. هل حان الوقت لترسيم الحدود بين سوريا ولبنان؟

عاد ملف ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان إلى الواجهة من جديد، بعد أعوامٍ طويلة من الجمود والمناوشات الإعلامية بين الحين والآخر، في ظل تصاعد الدعوات الرسمية والشعبية لترسيم الحدود وتنظيم العلاقات الحدودية برمتها بين الجارين. هذا الحراك يأتي في لحظة دقيقة تمر بها المنطقة، وتتقاطع فيها الاعتبارات الأمنية والسيادية والاقتصادية، مع إعادة خلط للأوراق الإقليمية وترتيب الملفات في المشرق العربي.
ملف ترسيم الحدود السورية – اللبنانية يقف بين الخطوط الجغرافية التي رسمتها اتفاقيات قديمة، والوقائع الميدانية التي فرضها الصراع السوري وتداعياته، ليجد البلدين نفسيهما أمام استحقاق وطني وسياسي شائك، يتطلب منهما توافقاً متبادلاً يحفظ الحقوق والسيادة لكليهما ويعزز الاستقرار على جانبي الحدود. في هذا المقال سنقف على تفاصيل الإشكالية الحدودية بين البلدين، ونطرح أسئلة واقعية مفادها، هل ينجح الحوار في تجاوز إرث التاريخ؟ وهل ترسيم الحدود خطوة صغيرة نحو سيادة كاملة؟
جذور مشكلة الحدود بين سوريا ولبنان
تعود جذور مشكلة ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان إلى اتفاقية “سايكس بيكو” عام 1916، حين مُنحت فرنسا السيطرة على سوريا ولبنان، ورسمت الحدود وقتها بطريقة مبهمة وغير مكتملة. ليعاد ترسيم بعض الأجزاء في عام 1934، لكن بالمقابل بقيت أجزاء واسعة غير محددة، في ظل أخد وردّ بين الطرفين على ترسيمها في عهد النظام السابق.
لتعود الأزمة بالظهور عقب توقيع اتفاق الترسيم النهائي بين البلدين في عام 1970، وبموجب الاتفاق أُقر بوجود 27 نقطة خلافية على طول الحدود ومناطق متداخلة منها “حوش السيد علي” التي شهدت اشتباكات مؤخراً بين الجانب السوري وأحد الأطراف اللبنانية.
كما دعا مجلس الأمن في عام 2006 سوريا عبر القرار رقم 1680 إلى الاستجابة لطلب لبنان بترسيم حدود البلدين المشتركة، وجاء القرار 1701 ليؤكد على ذلك بعد حرب تموز بين حزب الله اللبناني والكيان الإسرائيلي. ويبقى الترسيم شائكاً بسبب وجود بلدات متداخلة وسكان مختلطين على طول ما يقارب 375 كيلومتراً، مثل قرى وادي خالد والطفيل والقصير وحوش السيد علي، وصولاً إلى مزارع شبعا في الجنوب التي تشكل عقدة أمام نجاح الترسيم بسبب الاحتلال الاسرائيلي لها منذ عام 1967.
وضع الحدود بين النظام السابق والحالي
كانت هناك مطالبات عديدة ومتكررة من الجانب اللبناني لترسيم الحدود بين البلدين، دون أن تلقى رد جدي من الجانب السوري آنذاك، فكان للجانب السوري وقتها حساباته المتعلقة بالحدود مع خاصرته الرخوة لبنان منذ ما بعد حرب عام 2006 وحتى سقوط النظام عام 2024. المساعي الدبلوماسية لترسيم الحدود بين الجارين ليست جديدة أو وليدة اللحظة، بل تعود لسنوات طويلة من المطالبة اللبنانية والتجاهل السوري من قبل النظام السابق والحكومات اللبنانية المتعاقبة التي كانت تطالب بترسيم الحدود كترديد للكلام والمطالبات دون أيّ مطالبة فعلية وجدية تذكر.
استمر الوضع على حاله وبقيت الحدود غير مرسمة بين الطرفين إلى يومنا هذا، ليعاد فتح الملف بعد سقوط النظام في سوريا عام 2024، وتكون هناك تحركات جدّية من كلا الجانبين للترسيم، واللافت أن الجانب السوري هذه المرة اتخذ خطوة تجاه هذا الملف الشائك والعالق منذ سنين طويلة، وهو من ضمن الملفات العديدة التي يناقشها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع الجانب اللبناني.
في وقت سابق من الشهور الماضية، عقب السقوط، كانت قد أعلنت دمشق عن تفكيك خليتين اتجار بالمخدرات بعضها تابع لمجموعات لبنانية، و6 خلايا أخرى لتهريب السلاح. لتشمل الحدود بين الجانبين قرابة 130 معبراً غير شرعي، منها 53 معبراً قرب نقاط تقول التقارير أنها تعود لحزب الله.
أمام الفريق الدبلوماسي السوري مهام شاقة ونقاط شائكة عليه العمل عليها.
اقرأ أيضاً: ملف سجناء سجن رومية بين المماطلة اللبنانية والعوائق القانونية
استثمار إسرائيلي للحدود غير المرسمة
من يستغل الثغرات في الشرق الأوسط مثل الكيان الإسرائيلي، مشكلةٌ حدودية بين لبنان وسوريا يأبى الكيان إلا أن يطلّ برأسه. في الواقع، ودون تجميل أو مواربة باتت مسألة ترسيم الحدود اللبنانية – السورية اليوم مرتبطة بالموقف الإسرائيلي أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً مع ترقب نتائج المفاوضات السورية – الإسرائيلية بشأن الترتيبات الحدودية في الجنوب السوري.
بالتالي، ما لم تحسم معضلة هوية مزارع شبعا، سيبقى الترسيم بين لبنان وسورية معلّقاً ومؤجّلاً. كما أنّ مسألة ترسيم الحدود في وجود أراضٍ محتلة تطرح علامات استفهام كثيرة، خصوصاً حول ما تريده وتسعى إليه إسرائيل من واقع حدودي يصبّ في مصلحتها في البلدين فالكيان يتربص بكل دول الجوار. فمن جهة، تخوض مفاوضات مباشرة مع الجانب السوري، ومن جهة أخرى تُجرى مفاوضات غير مباشرة مع الجانب اللبناني عبر الوسيط الأميركي توم باراك. والعقل الإسرائيلي دائماً يتجه لتصعيد الأمور وزعزعتها.
معضلة مزارع شبعا وتبعات انضمامها لأحد الجانبين
تبقى مزارع شبعا هي العقدة، والتمسك بها واضح من قبل حزب الله، الذي يؤكد على لبنانيتها من خلال بياناته وخطاباته. فهذه المنطقة تفرض اعتبارات سياسية وأمنية كونها محتلة من قبل الكيان الإسرائيلي، وبين تمسك الحزب بمنطقة “شبعا” تسعى الأطراف المناوئة له في لبنان للتخلص من هذا الملف عبر تلزيمها لسوريا وتخليص الحزب من هذه الذريعة التي تبرر له قانونياً من وجهة نظر الأطراف المناوئة له استمرار المقاومة وحمل السلاح ضد إسرائيل.
أما على الجانب السوري، فإن الاعتراف بمزارع شبعا كأرض سورية سيضيف عبئاً سياسياً وأمنياً جديداً على دمشق، والتي تتعامل اليوم مع ملف الجنوب السوري الذي توغل فيه الاحتلال الإسرائيلي بالطرق الدبلوماسية في ظل ابتزاز إسرائيلي وتدخل بالشأن السوري من قبل الكيان تحت ذريعة حماية أمن “إسرائيل” في ظل تردد أصداء إعلامية عن ضغوطٍ أميركية على دمشق لمصلحة الكيان بشكل غير مباشر بين الحين والآخر. فالاعتراف السوري بمزارع شبعا كأرض سورية سيعزز أوراق الابتزاز الإسرائيلية والضغوط الأمريكية تبعاً لها.
آخر التطورات بهذا الملف الشائك.. هل نقترب من النهاية؟
في تاريخ 28 آذار، وقع وزير الدفاع اللبناني “ميشال منسى” مع نظيره السوري “مرهف أبو قصرة” في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية اتفاقية لترسيم الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا وتعزيز التنسيق الأمني الثنائي، على أن تُنشأ “لجان قانونية ثنائية ومتخصصة” وتُفعّل “آليات تنسيق لمواجهة التهديدات الأمنية”، هذا الاجتماع جاء على وقع اشتباكات عنيفة شهدتها الحدود شمال شرق لبنان مع سوريا في منتصف آذار 2025، استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة من صواريخ “أرض- أرض” وصواريخ مضادة للدروع وعربات مصفحة. الاشتباكات بدأت عقب مقتل ثلاث عناصر من الجيش السوري على يد عناصر يقال أنها تتبع لحزب الله تجاوزت الحدود اللبنانية نحو منطقة القصير السورية، حسب رواية وزارة الدفاع السورية. من جهة أخرى، الرواية اللبنانية تقول أن القتلى هم مهربون سوريون دخلوا منطقة “حوش السيد علي” اللبنانية وقتلوا هناك قبل أن تسلّم جثثهم إلى الجانب السوري عبر الصليب الأحمر اللبناني.
عقب هذا الاتفاق، جاءت زيارة رئيس الحكومة اللبنانية الحالي “نواف سلام” إلى دمشق في نيسان الماضي، حيث التقى الرئيس السوري “أحمد الشرع”، وجرى الاتفاق على إنشاء لجنة وزارية تعالج القضايا المشتركة، وفي صلبها ملف الحدود البرية والبحرية.
لكن اللافت أن مطلب ترسيم الحدود ليس محصوراً بالجانبين السوري – اللبناني، بل الأمريكي على الخط، فقد كان الموفد الأميركي “توم باراك” قد حمل في 19 حزيران الفائت إلى بيروت ما عُرف بـ “الورقة الأميركية”. ورغم أنها تتعلّق مباشرة بمسألة حصر السلاح ونزع سلاح حزب الله اللبناني، وصادقت عليها الحكومة اللبنانية، إلا أن المبعوث الأميركي ناقش فيها أيضاً مع المسؤولين اللبنانيين إعادة بناء العلاقة مع دمشق أمنياً وسياسياً وحدودياً، وصولاً إلى “الترسيم”.
اللافت أكثر، أن الورقة خصصت فصلين للعلاقة بين بيروت ودمشق، في مقدمتها الدعوة إلى إطلاق مبادرة عملية لترسيم الحدود البرية والبحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة، من خلال لجنة مشتركة يشارك فيها خبراء خرائط من الأمم المتحدة، وتكون برعاية وإشراف أميركي وفرنسي وسعودي إلى جانب الأمم المتحدة. ويطرح هنا سؤال ما مصلحة أميركا في ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان؟ هل هناك علاقة بين الرغبة الأميركية وملف الجنوب السوري؟
مؤخراً في 11 تشرين الأول الجاري، زار وزير الخارجية السوري، لبنان بزيارة رسمية رافقه فيها وزير العدل السوري “مظهر الويس” وبحثا الملفات العالقة بين البلدين مع الجانب اللبناني في بيروت ومنها ترسيم الحدود، كل ذلك إلى جانب لقاءات جمعت الرئيس السوري أحمد الشرع بكل من رئيسي الوزراء اللبنانيين السابق نجيب ميقاتي والحالي نواف سلام، فضلاً عن لقاء الرئيسين السوري واللبناني على هامش القمم واللقاءات العربية والدولية، وبمجمل تلك القاءات تم التطرق إلى ملف ترسيم الحدود.
بالمحصلة، ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان ليس مجرّد إجراء إداري أو تقنية مساحية أو رفاهية سياسية ودبلوماسية ففي فترة سابقة وصفت هذه الحدود “بالحدود السياسية” وهذه تسمية فضفاضة تحتاج إلى الوقوف عندها وحلّها. إن ترسيم الحدود بين الجانبين هو عقدة مركّبة تتداخل فيها أبعاد تاريخية ودبلوماسية وسياسية واقتصادية تعود جذورها إلى زمن الانتداب الفرنسي وزمن “غورو” وإقامته للبنان الكبير. فبين الأخوّة والسيادة الترسيم ضرورة لا تهديد.
تتطلب مراقبة الحدود اللبنانية السورية لحين ترسيمها نشر عشرات الآلاف من قوات الحدود المجهزة والمدربة والمؤهلة بشكل جيد على الجانبين، وهو ما لا تسطيعُه أي من الدولتين في الوقت الراهن في ظل غياب العديد والمعدات اللازمة.

