لطالما كانت الحدائق متنفس للسوريين وملجأ لهم خلال سنوات الحرب، فقد احتضنت الحدائق العديد من الأسر النازحة التي طالتها نيران الصراع، ولم تكفّ تلك المساحات الخضراء عن احتضان أفراح السوريين وأوجاعهم، فأشجارها تحتضن مآسيهم وأغصانها تُخبر عن قصص فرحهم وضحكات أطفالهم، وفي الصيف تشهد الحدائق العامة إقبال كبير بسبب الإجازات المدرسية، وكعامل اقتصادي بسبب الأسعار المقبولة في حال كانت مأجورة، وعامل خدمي بسبب الحرارة الشديدة والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي.
يفضل السوريون في معظمهم الجلوس في الحدائق العامة على ارتياد المقاهي والمطاعم، بفعل الارتفاع الفاحش بالأسعار وعدم وجود القدرة المادية الكافية لتلك العائلات على تحمل تكاليف الرفاهية، فتوفر لهم الحدائق هذا الملاذ للتنزه وللقاءات العائلية، لكن هناك واقع مرير ملم بها، خليط من إهمال وقضم لمساحاتها الخضراء على حساب التوسع العمراني. فما حال تلك الحدائق الآن وهل من خطط للإنقاذ؟
نقص الخدمات الأساسية في الحدائق
يجتاح مختلف أماكن التنزه في سوريا موجة من نقص الخدمات والمرافق الأساسية، مثل الإضاءة والمياه ودورات المياه، وفي حال غياب المستثمر ودفع الأجور فإن هذه الخدمات تغيب معه. بالإضافة لقله الاهتمام بالنظافة العامة وكل تلك العوامل لها أن تحد من قدرة الأهالي لاسيما الأطفال وكبار السن على الاستفادة الكاملة منها، وما يصعب عملية تركها كمتنفس آمن ورخيص.
حلب
وفي حدائق حلب: الرازي، سيف الدولة، بستان القصر، الوجع واحد ولون الإهمال ذاته، فالحدائق المذكورة تحتاج لإعادة تأهيل كاملة من حيث الأرضيات والمقاعد وألعاب الأطفال، ناهيك عن وضع الشجيرات والأشجار فيها، فهي تحتاج لحمله تشجير تعيد لها رونقها.
بالإضافة للانتشار المرعب للنفايات مما يؤثر على النظافة العامة ويشكل تهديداً رئيسيّاً للغطاء النباتي في تلك الأماكن، فالرقابة غائبة وتفاعل المواطنين محدود مع حملات التوعية والخاسر الرئيسي هو المواطن البسيط الباحث عن شرارة أمل في هذه المنتزهات.
دمشق
أما في دمشق وفي خضم اعتماد سكانها المتزايد على الحدائق، فواقع البنية التحتية فيها متهالك إلى حد كبير في ظل غياب للصيانة وانعدامٍ للتخديم، وصدأ أكل ألعاب الأطفال وأكل أحلامهم في تجربتها.
يوجد في دمشق ما يقارب 177 حديقة مفتوحة موزعة في الأحياء السكنية، مختلفة بالمساحة والخدمات المتوفرة، أبرزها: حديقة “تشرين”، وهي الأكبر مساحة، وحديقة “السبكي”، وحديقة “الجاحظ” في أبو رمانة، التي تعرضت مؤخراً لحريق ألحق الضرر في قسم منها دون معرفة السبب وراءه.
ونسبة قليلة منها ما زالت محتفظة بالحد الأدنى من الخدمات، كمساحة قابلة للزيارة، فيعاني قسم كبير منها من نقص في الخدمات الأساسية، كغياب دورات المياه العامة، وفي حال وجودها فهي غير نظيفة أو مغلقة معظم الوقت، إضافة إلى أن المقاعد الخشبية متهالكة وغير صالحة للجلوس، ومعظم المصابيح مكسورة أو معطلة، ما يجعل الحديقة غير آمنة في الليل، كما تفتقر معظمها لألعاب الأطفال أو أنها قديمة ومعطلة، ما يحرمهم من الاستمتاع الكامل بالمكان.
كما تتحول ليلاً لمكان تجمعات غير مضبوطة، ما يقلل من الإحساس بالأمان، ما يزيد من مشاكلها ويزيد من إمكانية خسارتها لدورها كمتنفس في جميع الأوقات.
إدلب
أما في إدلب فالواقع مختلف، فالاستثمار على حساب السكان والمساحة الخضراء، فالعديد من الحدائق العامة في إدلب ومنها “الحديقة المثلثة” خسرت بعضاً من مساحتها الخضراء على حساب مشاريع استثمارية وأكشاك باتت تقضم الحيز الأخضر فيها.
وقضية استثمار وإشغال الحدائق العامة ليست جديدة، برزت منذ سيطرة فصائل المعارضة في السابق على إدلب في 2015، حتى صارت ظاهرة عامة.
وتضم إدلب عدداً من الحدائق العامة، أكبرها حديقة المشتل، إضافة إلى حدائق الزير والجلاء والسراملة وألمازا، وتشكل متنفس للسكان حالها حال باقي الحدائق في البلاد، وعملت ما كانت تسمى “حكومة الإنقاذ” آن ذاك على استثمار هذه الحدائق مع مؤسسات عاملة في المنطقة بتداخل مسؤوليات غير مفهوم أو مبرر، عبر طرحها أمام المستثمرين الذين رغم تأهيل بعض البنى التحتية فيها، إلا أنهم يغلبون الجانب المادي والربحي على أي جانب آخر.
وفي تصريحات مختلفة للمواطنين يؤكدون وتتقاطع تصريحاتهم بأن هذه الأماكن متنفس أهالي المدن الوحيد، ويمارس الأطفال فيها نشاطهم، فتأهيلها والعناية بها واجب من قبل السلطات لا استغلالها.
اقرأ أيضاً: مبادرات تطوعية في طرطوس واللاذقية لتحسين الواقعين الخدمي والبيئي
خطط ووعود للنهوض بواقع المنتزهات
قبل التحرير لم يكن الحال أفضل من الآن، لكن كان هناك سِمة كانت متبعة قائمة على منح المستثمرين تراخيص، فكانوا يتنافسون فيما بينهم لتحسين الخدمات ما ينعكس على استقطاب الزوار إليهم، مع حملات خدمية بين الحين والآخر، تستهدف إعادة تأهيل الألعاب وطلائها وتحسين المقاعد الخشبية وطلاء الحديدية منها.
في حلب، أشار مدير الحدائق إلى أن المديرية قد وضعت خطة عمل متكاملة تشمل الترميم وإعادة التأهيل، والسقاية والتعشيب والتقليم، إلى جانب حملات نظافة وتوزيع سلال قمامة، وزراعة نحو 50 ألف غرسة في الحدائق والمحاور الرئيسة.
وأكد أن أعمال التشجير شملت الكثير منها، بينها الحديقة العامة والسبيل والكتاب وسيف الدولة والحمدانية، وبعض حدائق القطاع الشرقي، مؤكداً أن هناك خطة لتأهيل الحدائق في تلك المناطق بشكل كامل، بالتعاون مع مجلس مدينة حلب والمنظمات الداعمة.
وفي دمشق، بيّن مشرف مديريات الحدائق والنظافة في مديرية نظافة دمشق، صبري عباس، إن هناك خطط لإعادة تأهيل جميع الحدائق في دمشق بما فيها حديقة “الجاحظ”، بحسب مخططات مدروسة تسهم في تقديمها بالشكل النموذجي.
وأوضح أن هناك دراسات ستنفذها المحافظة، وأخرى ستطرح ضمن مناقصات على القطاع الخاص، وقسم آخر سيوضع ضمن الاستثمار مقابل إعادة تأهيله.
ختاماً، الحدائق ملاذ ومتنفس لا يمكن إهماله ولا يمكن تقويض أحلام البسطاء بفسحة خضراء يتنفسون من خلالها الصعداء، فيجب على الجهات المعنية توسيع دائرة إعادة التأهيل لتشمل معظم المنتزهات والأماكن العامة في البلاد وجعلها بصورة نموذجية حسنة، إلى جانب العمل على ضبط جشع المستثمرين وردعهم، وتقديم خدمات تليق بأحلام المواطنين الذين يطمحون لكل ما هو جميل.
اقرأ أيضاً: “ممارسات غير أخلاقية” في حدائق دمشق والحراس لا يملكون صلاحيات