الكاتب: أحمد علي
في أرضٍ كانت يوماً تُروى بالأنهار وتزهو بالمحاصيل، أصبح الحديث عن الجفاف جزءاً من يوميات المزارعين في سوريا. فبين مواسم الشح المطري وتراجع منسوب الينابيع، يتكشّف الواقع القاسي الذي يهدد ليس فقط حياة الفلاحين، بل أمن البلاد الغذائي واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي. إنها أزمة تتجاوز قلة الأمطار إلى غياب التخطيط، وتضع الجميع أمام تحديات وجودية لا تحتمل التأجيل.
الجفاف: الزراعة تحتضر
تعدّ محافظة حماة من أكثر المناطق الزراعية تأثراً بتبعات الجفاف، إذ يعاني الفلاحون من تراجع مخيف في منسوب المياه، سواء في الأنهار أو الينابيع الجوفية، ما انعكس بشكل مباشر على إنتاج المحاصيل المروية. ومع غياب الدعم الكافي وارتفاع تكاليف السقاية، باتت مزارع واسعة مهددة باليباس، في حين يواصل الفلاحون دق ناقوس الخطر مطالبين بإجراءات عاجلة لإنقاذ ما تبقى من الموسم الزراعي.
وفي حديث له حول الأمر، أكد الباحث الاقتصادي الدكتور فاخر القربي أنّ ما يحدث اليوم ليس أزمة عابرة بل نتيجة تراكمات طويلة وغياب الخطط الاستباقية. وأشار إلى أنّ البلاد تعاني من شبه انهيار في قطاع الزراعة، ليس في حماة وحدها بل في معظم المناطق السورية. وأضاف أنّ غياب الرؤية الواضحة وعدم توفير مستلزمات الزراعة جعل الفلاح مكشوف الظهر أمام تقلبات المناخ وتكاليف الزراعة الباهظة.
يشدد د. القربي على أنّ الجفاف لم يعد يؤثر فقط على النبات والحيوان، بل تعدى ذلك ليهدد حياة البشر بشكل مباشر، في ظل تعقيدات بيئية واقتصادية تنذر بأزمة غذائية خانقة. ومن هنا تبرز «الحاجة الملحة لخطة وطنية زراعية تعتمد على بيانات دقيقة وتوجه الدعم بشكل ذكي ومستدام لضمان الحد الأدنى من الإنتاج الزراعي القادر على تلبية حاجات السكان» حسب تعبيره.
الحلول موجودة…
ورغم قتامة المشهد، يؤكد الخبير الاقتصادي أن هناك مجموعة من الإجراءات يمكن أن تساهم في الحد من آثار الجفاف وتحسين إدارة الموارد المائية. من أبرز هذه الإجراءات:
- رفع كفاءة استخدام المياه سواء في الزراعة أو المنازل، عبر التحول إلى أنظمة ري حديثة مثل الري بالتنقيط أو الرذاذ.
- مراقبة وتطوير أنظمة إدارة المياه في السدود والخزانات، مع الاستثمار في تقنيات رصد دقيقة لمستوى المياه.
- دعم التكنولوجيا الزراعية المستدامة وتشجيع الممارسات التي تقلل من الاستهلاك دون التأثير على الإنتاج.
تحلية المياه: أمل مكلف ولكنه ضروري
يضع د. القربي تحلية المياه ضمن الحلول الممكنة، رغم ما تتطلبه من استثمارات ضخمة. ويشير إلى أنّ الطريقة التقليدية في التحلية عبر الغلي والتكثيف تحتاج إلى كميات كبيرة من الوقود الأحفوري، لكنها قد تصبح أكثر جدوى في المستقبل القريب مع تطور تقنيات مرشحات الجرافين، التي تعمل دون طاقة حرارية وتعتمد فقط على الضغط الهيدروستاتي.
وكي يكون كلام الدكتور واضحاً ومفهوماً لأي قارئ؛ نوضّح: يشير الدكتور فاخر القربي إلى أن تحلية مياه البحر تُعد من الحلول التي يمكن اللجوء إليها لمواجهة أزمة نقص المياه، لكنها ليست سهلة أو رخيصة. فالطريقة التقليدية لتحلية المياه تعتمد على غلي الماء المالح حتى يتحول إلى بخار، ثم تكثيف هذا البخار للحصول على ماء عذب. وهذه العملية تتطلب حرارة عالية جداً، ما يعني استهلاك كميات كبيرة من الوقود، مثل الغاز أو النفط، وهذا ما يجعلها باهظة التكلفة.
لكن -وفق الدكتور- هناك أمل جديد يعتمد على تقنية حديثة تُسمى مرشحات الجرافين. وهذه التقنية لا تحتاج إلى حرارة عالية أو غليان، بل تستخدم فقط الضغط لفصل الأملاح عن الماء، مما يجعلها أقل استهلاكاً للطاقة وأرخص من حيث التشغيل في المستقبل. وإذا تطورت هذه التقنية بالشكل المطلوب، فقد تُحدث ثورة في مجال تحلية المياه وتجعلها متاحة بتكلفة معقولة للناس والدول التي تعاني من شح المياه.
بنية تحتية ذكية لمستقبل أكثر أماناً
من بين الركائز الأساسية لمواجهة الجفاف أيضاً، تحسين البنية التحتية لشبكات المياه لتقليل الفاقد، وتعزيز التخطيط المدني الذي يأخذ في الحسبان تأثير التوسع العمراني على استهلاك المياه. كما لا بد من تطوير سياسات وتشريعات تنظم حقوق استخدام المياه وتمنع التعديات على الموارد المائية.
وأشار د. القربي إلى أهمية التوجه نحو زراعة أصناف تتحمل الجفاف، بما يتماشى مع الواقع المناخي المستجد. ويشمل ذلك الاستثمار في البذور المحسنة بيولوجياً، واستخدام الأسمدة والمغذيات بكفاءة عالية، مع دعم المزارعين تقنياً وإرشادياً لتبني هذه الأنماط الزراعية الجديدة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن واحدة من الركائز التي لا تقل أهمية عن غيرها، وفقاً للدكتور القربي، هي رفع الوعي المجتمعي بأهمية ترشيد استهلاك المياه. إذ إنّ استخدام المياه بطريقة عقلانية يجب أن يتحول إلى ثقافة مجتمعية راسخة، تبدأ من المنازل والمدارس ولا تنتهي في الحقول والمعامل.
حصاد مياه الأمطار: استثمار بسيط ومفيد
من بين الحلول المتوفرة أيضاً، ما يُعرف بـ«حصاد مياه الأمطار»، وهي تقنية شهدت تطوراً كبيراً في السنوات الأخيرة وتوفر خياراً فعالاً لتخزين المياه في الأوقات الرطبة لاستخدامها لاحقاً. فبينما لا تمتص التربة في المدن أكثر من 15% من مياه المطر، يمكن رفع هذه النسبة بشكل كبير في المناطق الريفية وتخزين المياه بطرق مدروسة للاستفادة منها خلال أشهر الجفاف.
اقرأ أيضاً: باحث اقتصادي يطمئن السوريين: سوريا من أقل الدول تأثراً بأزمة الغذاء العالمية
تحركات رسمية
أعلنت وزارة الزراعة السورية عن اتخاذ سلسلة من الإجراءات للحد من زراعة المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه. وأكدت الوزارة أن تخفيف العقوبات الأوروبية والأمريكية قد يشكل خطوة إيجابية من شأنها تسهيل استيراد الأسمدة والمعدات الحديثة لأنظمة الري، الأمر الذي من شأنه دعم جهود الدولة في الحفاظ على الموارد المائية المتبقية وتحسين الإنتاج الزراعي.
وفي هذا السياق، دعت منظمات الأمم المتحدة إلى تحرك عاجل، مطالبة بتنفيذ تدخلات استباقية داخل القطاع الزراعي السوري، بهدف حماية الأرواح وضمان سبل العيش للمجتمعات المحلية المتأثرة بشدة من الجفاف.
وتشمل تلك التدخلات عدة محاور رئيسية، من بينها: تأمين وصول أفضل لمياه الري للمزارعين في المناطق المتضررة – توفير مستلزمات زراعية عالية الجودة في الوقت المناسب لضمان استمرارية الزراعة – دعم قطاع تربية الماشية عبر تحسين تغذية الحيوانات وتنفيذ حملات تلقيح وقائية – إعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية بما يشمل شبكات الري والخزانات والطرقات الزراعية.
تأثيرات كبيرة على الفلاحين
لاقى هذا الواقع المائي والزراعي السيء في البلاد انعكاساً كبيراً عند فلاحي سوريا، ففي حديث لأحد فلاحي سوريا، وهو فرهاد أحمد سنجار من كوباني، قال: «لن أزرع شبراً واحداً العام القادم – إنها تجارة خاسرة». لقد بذل سنجار جهداً كبيراً بزراعة 150 دونم قمح مروي و150 آخرين من الشعير، بالإضافة إلى محاصيل الصيف. لكن نقص الأمطار أدى لبيع الشعير كعلف، بسبب جفاف الأرض وغياب المياه. وهذا كلامٌ بسيط لكنه يعكس حجم الخسائر الاقتصادية والنفسيّة للفلاحين، والتحول من الاعتماد على الزراعة إلى مجرد الإنقاذ من الخسارة.
ختاماً، رغم أنّ الجفاف بات واقعاً لا يمكن إنكاره، إلا أن تجاوزه لا يزال ممكناً إذا توفرت الإرادة والتخطيط. فالمعادلة واضحة: إما التحرك الجاد لإنقاذ الزراعة، أو مواجهة شبح الجوع والفقر ونزوح جديد من الأرض إلى المجهول.