الكاتب: أحمد علي
في الجنوب السوري، لم تعد الجغرافيا تُرسم بالحبر أو تُعدّل باتفاقات دولية، بل باتت تُحفَر وتُجرَف بأسنان الجرافات. وبينما تتوالى التصريحات الدولية عن احترام سيادة الدول، تُعيد «إسرائيل» رسم خطوط التماس في ريف القنيطرة تحت اسم رمزي لمشروع أمني – عسكري يُدعى «سوفا 53». مشروعٌ قد يبدو في ظاهره تقنياً أو دفاعياً، لكنه في العمق، خطة مدروسة لخلق واقع ميداني جديد في جنوب سوريا، واقع يكرّس العزلة، ويمهّد لتغيير ديموغرافي، ويُنفذ بصمت أممي لا يقلّ خطورة عن المشروع نفسه.
«سوفا 53»: تمدد صامت تحت عين الأندوف
منذ أواخر عام 2024، ومع التغيرات السياسية التي أعقبت سقوط سلطة بشار الأسد، بدأت «إسرائيل» تنفيذ مشروع «سوفا 53» في ريف القنيطرة، مستغلةً حالة الفراغ الأمني والارتباك السياسي. وتحت أنظار قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك «الأندوف»، بدأت الجرافات الإسرائيلية تشق طريقها على طول خط وقف إطلاق النار، من الشمال السوري وحتى مشارف المثلث الحدودي مع الأردن والجولان المحتل.
والسكان المحليون في قرى مثل جباتا الخشب، الحميدية، وأم العظام يتحدثون عن مشهد يتكرر يومياً: أشجار تُقتلع، حواجز تُرفع، وطرقات تُغلق، فيما يزداد شعورهم بأن قراهم تتحول إلى جيوب مغلقة، معزولة، باسم «تأمين الحدود».
مشروع «سوفا 53»: التسلل خلف واجهة هندسية
بحسب ما رصده مراسلون محليون، يمتد المشروع ليشمل سلسلة من الطرق والسواتر والخنادق العسكرية. إذ يبدأ المخطط من قرية أم العظام، مارّاً بالحميدية وجباتا الخشب، وصولاً إلى حضر، بهدف فصل تلك القرى عن بعضها البعض، وقطع الامتداد الطبيعي بينها وبين ريف درعا الغربي.
وفي مراحله المتقدمة، يمتد المشروع من تل الأحمر غرباً حتى قرى مثل الرفيد، صيدا الحانوت، وكويا، ليبلغ في النهاية المثلث الحدودي جنوباً.. وبهذا، يتحول الجنوب السوري إلى طوق أمني تفرضه «إسرائيل» من طرفٍ واحد، بتدرج محسوب ودون اشتباك مباشر.
حرش الشحار: حين تُجتث الذاكرة
واحدة من أكثر الخطوات المثيرة للقلق ضمن هذا المشروع هي عمليات التجريف الواسعة في منطقة حرش الشحار وغابة جباتا الخشب. فهذه المساحات الخضراء، التي تمتد على أكثر من ألف دونم، كانت تمثّل الحزام الأخضر الذي يربط القرى ويحميها من التصحر. اليوم، ومع المتغيرات الجديدة تتحول تلك الغابات إلى «ممر أمني مكشوف»، يُمكّن الجيش «الإسرائيلي» من مراقبة كل شبر حوله.
«الاحتلال لا يسرق الأرض فقط، بل الذاكرة أيضاً» يقول محمد مريود، أحد وجهاء جباتا، مضيفاً أن ما يجري هو «بناء جدار عنصري بنكهة عسكرية». والسكان بدورهم أطلقوا نداءات استغاثة للأمم المتحدة، لكن الاستجابة كانت صامتة، تماماً كجنود «الأندوف» الذين يراقبون دون أن يتحركوا.
عزلة جغرافية وانهيار اقتصادي
وفي التفاصيل، فقد بدأت الآثار الميدانية لهذا المشروع تظهر في الحياة اليومية. فمختار قرية أم العظام، ياسين الحمد، يؤكد في حديث له أن القرى المجاورة باتت محاطة بسواتر ترابية تمنع الحركة بينها. ويضيف: «نعيش عزلة قسرية، لم نعد قادرين على التنقل بحرية، وحركة البضائع توقفت تقريباً».
كما أُغلق الطريق الحيوي بين مدينة السلام والحميدية بحاجز حديدي دون أي إعلان مسبق، مما أدى إلى شلل تام في التنقل، وأربك مصالح السكان في المنطقة التي تعتمد بشكل كبير على العلاقات الزراعية والاقتصادية المتبادلة بين القرى.
قواعد «إسرائيلية» وشلل في القرار الدولي
ومنذ تنفيذ المشروع، رُصدت قواعد عسكرية «إسرائيلية» جديدة داخل الأراضي السورية، تقابلها مواقع مراقبة تابعة لقوات «الأندوف» تكتفي بالمشاهدة. ووصف بعض الناشطين المشهد بـ «التنسيق غير المُعلن»، إذ إن كل توسع إسرائيلي يُقابله صمتٌ دولي، بل ووجود أممي يضفي عليه غطاءً من الشرعية الضمنية.
من جانبه، عبّر الشيخ جودت الطويل، من وجهاء حضر، بوضوح عن موقفه: «نحن لن نغادر أرضنا. وجود الجرافات لن يُغير من هويتنا. نحن سوريون وسنبقى، حتى لو بنوا سوراً من النار».
عقيدة عسكرية جديدة: الهجوم الوقائي
ويرى الخبير العسكري العقيد أكرم أبو ميجنا في المشروع تعبيراً عن تحول استراتيجي في العقيدة «الإسرائيلية»، حيث باتت تل أبيب تعتمد سياسة «الهجوم الوقائي» لا الدفاع. ويضيف: «لم تعد إسرائيل تنتظر الخطر، بل تخلق واقعاً يمنع وقوعه» على حد تعبيره.
ويؤكد أن التجريف وقطع الطرق لا يستهدفان فقط البنية التحتية، بل يسعيان لإفراغ المنطقة من سكانها بشكل تدريجي دون الحاجة لصدام مباشر، ما يشكل خرقاً صريحاً لاتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974.
أهم بنود اتفاق فك الاشتباك 1974
نصّ الاتفاق على وقف شامل لإطلاق النار بين الطرفين، وشمل البر والبحر والجو، مع تحديد خطوط فاصلة بين القوات السورية و«الإسرائيلية»، تقضي بانسحاب «إسرائيل» من مدينة القنيطرة وإنشاء منطقة منزوعة السلاح تراقبها قوات أممية (UNDOF).
الهدف من الاتفاق الحفاظ على الهدوء ومنع أي اشتباك مباشر مستقبلي، وهو ما التزمت به دمشق لعقود، فيما واصلت «إسرائيل» خرقه بشكل متكرر، عبر التوغل في المنطقة المنزوعة السلاح، وإنشاء مواقع عسكرية ثابتة فيها، وشنّ غارات جوية متكررة، إضافة إلى تهجير سكان محليين من قراهم الواقعة قرب خط الفصل، وحرمانهم من الوصول إلى أراضيهم الزراعية ومصادر رزقهم، في انتهاك صارخ لروح الاتفاق ونصّه.
ما الذي يمكن للسوريين فعله ضمن حدود الواقع والمنطق السياسي الحاكم؟
في ظل عدم قدرة الرد السوري على التقولب اليوم، وانشغال الحلفاء الإقليميين والدوليين بأولوياتهم، يبدو -مع الأسف- أن مشروع «سوفا 53» يمضي قدماً دون عوائق. وسكان القنيطرة يرون فيه نواة «تهجير ناعم»، حيث تُفرض عليهم ظروف تمنعهم من البقاء، بينما تُرسم حدود جديدة على وقع محركات الجرافات.
ما يجري اليوم في الجنوب السوري ليس مجرد عملية هندسية، بل هو تعدي عدواني على السيادة السورية، واستبدالٌ للخرائط، في محاولة لتحويل الأرض إلى واقع أمني خاضع لـ «إسرائيل»، دون اتفاق، ودون قتال، بل بمشهد يومي يتكرر على أنقاض الغابات والطرقات، وتحت عين عالم يراقب بصمت، ولا يحرّك ساكن.
في الوقت الراهن، لا يبدو أن التصعيد العسكري خيارٌ متاح أو منطقي، نظراً للوضع الداخلي الهش، والانقسام السياسي، وتراجع إمكانات الدولة. لكن بالمقابل، لا يمكن الاستسلام للأمر الواقع. فما يمكن فعله بشكل فعّال هو تحريك المسارات الدبلوماسية والقانونية، من خلال تقديم شكاوى موثقة للأمم المتحدة، والاستفادة من تقارير سابقة دانت «إسرائيل» بسبب تدميرها مدينة القنيطرة وتهجير سكانها، وهو ما اعترفت به الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974.
كذلك، من المهم العمل على توثيق الانتهاكات بالصوت والصورة، وإبراز شهادات السكان المحليين، والتعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية لإبقاء القضية حيّة على أجندة الإعلام والمؤسسات الغربية، خصوصاً في ظل صعود الاهتمام الدولي بقضايا النزوح والتهجير القسري.
اقرأ أيضاً: تركيا و«إسرائيل» في سوريا: تنسيق أمني أم تحاصص وتقاسم نفوذ؟!