الكاتب: أحمد علي
منذ أكثر من عقد، كانت الليرة السورية تترنح في وجه العواصف السياسية والعقوبات الاقتصادية، وتبحث عن طوق نجاة وسط أمواج السوق السوداء ومضاربات الصرافين.. اليوم، وبينما تخطو البلاد نحو مرحلة جديدة من إعادة الارتباط بالعالم المالي، يطلق مصرف سوريا المركزي إعلاناً غير مسبوق: البدء بمرحلة التعويم المدار. خطوة قد تكون مفصلية في تاريخ الاقتصاد السوري، تحمل معها آمالاً بعودة الثقة وفتح أبواب الاستثمار، لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات مشروعة حول المخاطر، وآليات التنفيذ، ومدى الجاهزية الداخلية.. إليكم التفاصيل!
ما هو «التعويم المدار»؟
التعويم المدار أو «Managed Float»، هو نظام يتم فيه ترك سعر صرف العملة يتحدد وفق العرض والطلب في السوق، لكن مع تدخل من البنك المركزي في فترات محددة، بهدف منع تقلبات حادة قد تُربك الأسواق أو تُضعف الثقة بالعملة المحلية.
وفي الحالة السورية، أوضح حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية، أن البلاد بصدد اعتماد هذا النظام في إطار خطة إصلاح اقتصادي شاملة، ترافقها إجراءات لدعم التجارة الخارجية، وضبط سوق القطع، وتخفيض الاعتماد على السوق الموازي.
لماذا الآن؟
وفق تصريحات حصرية، جاء هذا الإعلان في توقيت استراتيجي، بعد أن بدأت العقوبات الدولية تُرفع تدريجياً، لا سيما من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان. الخطوة الأبرز كانت الإعلان عن العودة إلى نظام سويفت SWIFT للمدفوعات الدولية خلال أسابيع، وهو ما يعني إعادة ربط القطاع المصرفي السوري بالاقتصاد العالمي بعد عزلة دامت 14 عاماً على حدّ تعبيره.
وبموجب القرار الياباني الأخير المشار إليه، فقد خرجت أربعة مصارف سورية من قائمة العقوبات وتجميد الأصول، وهي: المصرف الصناعي – مصرف التسليف الشعبي – مصرف التوفير – المصرف الزراعي التعاوني.
وهذا التطور، أي اعتماد التعويم المدار؛ سيُمثّل نقلة نوعية في البنية المالية لسوريا وفق المتوقع، إذ من المحتمل أن يسهم بشكل مباشر في خفض تكاليف الاستيراد عبر تسهيل الوصول إلى أنظمة الدفع العالمية، مما ينعكس إيجاباً على أسعار السلع في الأسواق المحلية. كما أنه قد يشكّل دفعة قوية لـتشجيع الصادرات، من خلال تيسير عمليات التحويل البنكي وتبسيط الإجراءات للمصدّرين. وبالتوازي، فإن إعادة الارتباط بالأنظمة المصرفية الدولية ستفتح الباب أمام تدفق العملات الأجنبية إلى البلاد، ما يعزز احتياطي النقد الأجنبي ويقوّي موقف الليرة السورية.
ولأن هذه العمليات ستتم عبر القنوات الرسمية، فإنها من المتوقع أن تُسهم أيضاً في تعزيز الشفافية ومكافحة غسل الأموال، من خلال تتبّع مصادر الأموال وتحسين الرقابة المصرفية. والأهم من ذلك، أن هذه الإصلاحات ستقود إلى الحدّ من دور الصرافين غير المرخصين الذين طالما شكّلوا بديلاً غير منضبط للقطاع المالي الرسمي، مما يعزز استقرار السوق ويضبط حركة العملات.
نهاية حقبة الصرافين؟

بحسب حصرية، فإن جميع العمليات المتعلقة بالتجارة الخارجية ستمر عبر القطاع المصرفي الرسمي، مما يعني استبعاد الصرافين الذين كانوا يحصلون على نحو 40 سنتاً عن كل دولار يدخل إلى البلاد. وقد بدأت البنوك السورية، إلى جانب المصرف المركزي، بالحصول على رموز سويفت اللازمة، بانتظار استئناف عمل البنوك المراسلة الدولية.
اقرأ أيضاً: بين الطموح والتحديات في سوريا: ما هو اقتصاد السوق الحر؟
مقومات نجاح التعويم المدار
يرى الخبير المصرفي هشام خياط، أن نجاح تجربة التعويم المدار في سوريا يتوقف على عوامل عدّة، أهمها:
- توفر احتياطيات كافية من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي، للتدخل عند الحاجة ومنع تدهور سريع في سعر الصرف.
- شفافية الإجراءات، وتقليص الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازي.
- دعم سياسي واقتصادي متكامل، يواكب هذا التحول بسلسلة إصلاحات حقيقية، تتضمن جذب الاستثمار، وتطوير الإنتاج المحلي، وتخفيض العجز.
التعويم المدار حول العالم
في العديد من الاقتصادات الناشئة والمتقدمة، يجد صناع السياسات في نظام التعويم المدار صيغة وسطية تُوازن بين حرية السوق واستقرار العملة. فمثلاً، تعتمد البرازيل وكوريا الجنوبية وتشيلي وجنوب أفريقيا وتركيا ونيوزيلندا هذا النظام الفعّال، حيث يتخذ البنك المركزي إجراءات دقيقة لشراء أو بيع العملة عند الحاجة، بدلاً من ترك الليرة تنساب بحرية كاملة أو ربطها بشكل صارم بعملة أجنبية
أما في آسيا، فتتخذ الصين نهجاً مشابهاً من خلال ربط اليوان بسلة عملات وإبقاء نطاق التذبذب ضمن حدود محكمة، مع تدخّل دوري لتحقيق أهداف اقتصادية معينة. وبالتالي، فإن هذه الدول تدير سياسات نقدية مرنة تسمح لها بالبقاء مفتوحة على حركة رؤوس الأموال والتقلبات الدولية، بينما توفر وسيلة دفاعية بواسطة تدخل البنك المركزي في أوقات اللزوم.
بين الطموح والتحفظ
وفق ما تقدّم، فإن التحول نحو التعويم المدار لا يعني تحريراً عشوائياً للعملة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بل هو خطوة محسوبة تسعى لتحقيق توازن بين الانفتاح الاقتصادي وضبط الاستقرار النقدي. ومع أن التحديات لا تزال كبيرة، إلا أن المؤشرات الأولية – كعودة نظام سويفت، ورفع العقوبات، والاستقرار نسبي في سعر الصرف – توحي بأن سوريا ربما تقف على أعتاب تحول مالي عميق. لكن السؤال الأهم يبقى: هل تكفي هذه الخطوات لاستعادة ثقة المواطن والمستثمر؟ الجواب سيتضح في الأشهر القادمة، حين تبدأ الليرة اختبارها الحقيقي في ميدان الاقتصاد العالمي.