الكاتب: أحمد علي
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها سوريا، تبرز ظاهرة التسول كأحد التحديات الاجتماعية التي تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين، خاصة في المدن الكبرى مثل حمص. وفي هذا السياق، أعلنت محافظة حمص عن إطلاق خطة متكاملة لمعالجة هذه الظاهرة، التي أخذت في الانتشار بشكل لافت في الآونة الأخيرة. وقد أكد المسؤولون المحليون أن هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك فردي، بل هي نتيجة لتراكمات اقتصادية واجتماعية أثرت على كافة شرائح المجتمع. فما هي الأسباب التي أدت إلى زيادة أعداد المتسولين؟ وكيف يمكن معالجة هذا الملف بطريقة شاملة؟ هذا ما سنناقشه هنا…
تصاعد ظاهرة التسوّل في شوارع حمص
في بيان رسمي صادر عن محافظة حمص، أكدت المحافظة على ضرورة معالجة ظاهرة التسول بشكل جدي، مشيرة إلى أن المدينة بدأت تشهد زيادة ملحوظة في أعداد المتسولين، وأن هذه الظاهرة لم تعد مجرد مشهد عابر، بل هي ظاهرة اجتماعية تتطلب خططاً استراتيجية لمعالجتها. وقد أوضح المسؤولون أن هذه الحملة تهدف إلى الحفاظ على «كرامة الإنسان وصورة حمص الأصيلة»، وتعمل على إعادة المدينة إلى ما كانت عليه سابقاً من حيث الأمان الاجتماعي والاقتصادي.
وتتعاون مديرية الشؤون الاجتماعية في حمص مع جمعية البر والخدمات الاجتماعية والعديد من الجمعيات الأهلية لتنفيذ خطة شاملة تتضمن تقييم الحالات بشكل فردي وتحويل المحتاجين الفعليين إلى قنوات الدعم والرعاية المناسبة. ويشمل البرنامج أيضاً رصد الظاهرة ميدانياً في مختلف أحياء المدينة، وملاحقة شبكات الاستغلال المنظم التي تساهم في تفشي التسول.
آليات التنفيذ والتعاون مع الجهات الأمنية
أحد أبرز محاور الخطة هو العمل على متابعة ظاهرة التسول بشكل ميداني، وهذا يتطلب تعاوناً وثيقاً بين مختلف الجهات الرسمية والأمنية. فعلى الرغم من وجود بعض الجمعيات الأهلية التي تساعد في هذا المجال، فإن التنسيق مع الجهات الأمنية يعد خطوة حاسمة في ملاحقة شبكات الاستغلال والتأكد من أن عملية معالجة التسول تتم بشكل منظم وآمن.
وقد أكد البيان الرسمي أن التعاون مع الجهات الأمنية المختصة سيسهم في ملاحقة الشبكات المنظمة للتسول، التي تستغل بعض الأشخاص وتدفعهم إلى ممارسة التسول كحرفة بدلاً من أن يكون دافعهم الحاجة الفعلية. وهو ما يعكس تطوراً في الظاهرة من مجرد سلوك فردي إلى مشكلة اجتماعية أكثر تعقيداً.
توجيه المساعدات نحو القنوات الرسمية
ضمن الإطار نفسه، دعت محافظة حمص المواطنين إلى الامتناع عن تقديم المال للمتسولين في الشوارع، مؤكدة أن هذه المساعدات الفردية، رغم نواياها الحسنة، تساهم في تكريس الظاهرة بدلاً من حلها. بدلاً من ذلك، حثت المحافظة على توجيه المساعدات والتبرعات عبر الجمعيات الرسمية المرخصة، التي تضمن وصول الدعم إلى مستحقيه بشكل أكثر تنظيماً وفاعلية.
وتُعد هذه الخطوة جزءاً من استراتيجية أكثر شمولية تستهدف القضاء على التسول عبر تأمين بدائل معيشية واجتماعية للمحتاجين الفعليين، بما يضمن خروجاً تدريجياً وآمناً من دوامة التسول.
الزيادة الملحوظة في أعداد المتسولين: دراسة ميدانية
وفي ظل هذه الإجراءات، أظهرت دراسة ميدانية أعدتها «الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان» أن عدد المتسولين في سوريا شهد ارتفاعاً بنسبة 25% خلال الأشهر الماضية، وخاصة في شهر رمضان. وشهدت شوارع العاصمة دمشق، بالإضافة إلى بعض المدن الأخرى مثل حمص، تزايداً في أعداد المتسولين، الذين أصبح بعضهم يمارسون التسول بشكل “احترافي” ومنظم، لا بسبب الحاجة فقط، بل بدافع الربح الشخصي.
وتُظهر هذه الأرقام ارتفاعاً كبيراً في أعداد المتسولين، حيث تقدر بعض الدراسات أن نحو 250 ألف شخص في سوريا يمارسون التسول بشكل دوري، وأن 51% منهم من النساء. كما أظهرت الدراسة أن حوالي 10% من هؤلاء المتسولين هم من الأطفال، ما يعكس جانباً خطيراً من الظاهرة التي تهدد حقوق الأطفال في الحصول على التعليم والرعاية المناسبة.
مكافحة التسوّل: تحدٍ اقتصادي واجتماعي
من ناحية أخرى، أكد مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في حمص، محمود الخطيب، أن الوزارة بصدد إطلاق حملة شاملة للحد من ظاهرة التسول. وأشار إلى أن هذه الحملة ستشمل التعاون مع الجهات الأمنية لتفعيل القوانين الخاصة بمكافحة التسول، بالإضافة إلى إعادة تأهيل بعض المرافق المخصصة لاستقبال المتسولين، مثل «دار الكسوة» التي كانت تستخدم كسجن سابقاً.
وعلى الرغم من الجهود الحكومية المبذولة، إلا أن ظاهرة التسول تكشف عن مشكلة أكبر تتعلق بتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد. فبحسب برنامج الأغذية العالمي، يعاني نحو 12.9 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما يعكس حجم الأزمة التي يعاني منها العديد من المواطنين الذين اضطروا إلى اللجوء إلى التسول كوسيلة للبقاء على قيد الحياة.
التسوّل: ما هو ومتى يصبح جريمة؟
يُعدّ التسوّل ظاهرة اجتماعية عالمية، إلا أن التعريف القانوني يضفي عليه صفة الجريمة في حال توفرت شروط معينة. ففي القانون السوري، وتحديداً في المادة 596 من قانون العقوبات، يُعرّف المتسوّل بأنه: «من كان له مورد أو استطاع الحصول عليه من خلال العمل، لكنه لجأ إلى استجداء المال للمنفعة الشخصية، سواء بشكل مباشر أو متخفٍّ تحت غطاء أنشطة تجارية أو غيرها».
وتتعدّد صور التسوّل، فهناك من يطلب المال صراحة، مستخدماً عبارات مؤثرة أو دعوات مألوفة. وهناك من يعرض سلعة زهيدة القيمة مقابل الإلحاح على الشراء، وكأن الهدف الحقيقي ليس البيع بل تحصيل المال بأي وسيلة.
لماذا تتفاقم الظاهرة؟ الأسباب كما يراها الخبراء
يرى الباحث الاقتصادي الدكتور فراس شعبو أن تضخم ظاهرة التسوّل في سوريا لا يمكن فصله عن تردّي الوضع الاقتصادي العام، ويُرجع السبب الجوهري إلى حالة الانهيار الاقتصادي الشامل الذي طال أغلب طبقات المجتمع. ويضيف أن انعدام الوعي، وتسرّب الأطفال من المدارس، وانتشار البطالة، كلها عوامل تغذّي هذا السلوك.
وفي عام 2021، أفادت تقارير صادرة عن الأمم المتحدة أن 90% من السوريين أصبحوا تحت خط الفقر، في مشهد يعكس مدى التدهور في مستويات المعيشة، ويجعل من التسوّل – في نظر بعضهم – وسيلة للبقاء أكثر منه خياراً شخصياً.
العقوبات القانونية: بين الحبس والغرامة
لم يكن القانون السوري غافلاً عن هذه الظاهرة، بل خصّها بعقوبات محددة، تبدأ من الحبس وتصل إلى الغرامات المالية. وتنص الفقرة الأولى من المادة 596 على عقوبة الحبس من شهر إلى ستة أشهر لمن يُدان بجريمة التسوّل، وتُصنّف هذه الجريمة ضمن الجنح، وهي جرائم متوسطة الخطورة من حيث التصنيف القانوني.
وتتيح الفقرة الثانية من المادة ذاتها للمحاكم أن تفرض إجراءات إضافية، مثل الإيداع في «دار للتشغيل»، وهو تدبير احترازي يهدف إلى إعادة تأهيل المتسوّلين ضمن بيئة عملية تُمكّنهم من الكسب المشروع.
لكن المستجد اللافت في هذا السياق هو القانون رقم 15 الصادر عام 2022، والذي شدد العقوبات المالية بشكل ملحوظ، إذ باتت الغرامات تبدأ من 100 ألف ليرة سورية وتصل إلى نصف مليون، تبعاً لطبيعة الحالة. وتُشدد العقوبة أيضاً إذا ارتكب المتسوّل سلوكيات مثل التهديد أو استخدام الشتائم، أو ادعى كذباً إصابة أو عاهة جسدية.
شهادات من الواقع: ما يقوله القضاء
بحسب قاضي التحقيق الثاني في دمشق، محمد خربوطلي، فإن معظم المتسوّلين الذين يتم توقيفهم ليسوا بحاجة فعلية، ويضيف أن حوالي 99% منهم قادرون على العمل أو لديهم دخل آخر، لكنهم يختارون التسوّل باعتباره الأسهل والأكثر ربحاً. ويشير إلى أن نسبة المتسوّلين بين الموقوفين يومياً تصل إلى 10%.
ويفصّل خربوطلي الحالات التي تستوجب تشديد العقوبة، موضحاً أنها تشمل: حمل سلاح أثناء التسوّل، مرافقة طفل لا تربطه به صلة قرابة، حمل شهادة فقر مزورة، أو إبداء سلوك تهديدي تجاه المارة. وكلها تُعد مؤشرات على أن الظاهرة لم تعد سلوكاً فردياً ناتجاً عن حاجة، بل تحوّلت في بعض حالاتها إلى مهنة تعتمد على الخداع والاستغلال.
الحاجة إلى خطة شاملة على مستوى سوريا
في ضوء هذه المعطيات، لا يبدو أن مكافحة التسول في حمص هي مهمة سهلة، بل هي جزء من معركة طويلة الأمد تهدف إلى استعادة الحد الأدنى من الكرامة والعدالة الاجتماعية في سوريا. وتعد ظاهرة التسول اليوم بمثابة جرس إنذار لما يعانيه المجتمع السوري من تحديات اقتصادية واجتماعية، وتحتاج إلى حلول مبتكرة وشاملة لا تقتصر على الإجراءات الأمنية فحسب، بل تشمل أيضاً تقديم الدعم الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين.
وتشير بعض الدراسات إلى أن سوريا بحاجة إلى أكثر من 50 عاماً لاستعادة مستوى اقتصادها ما قبل الحرب، وهو ما يسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى تكاتف جميع الجهود على المستوى المحلي والوطني لمواجهة هذه الظاهرة.
اقرأ أيضاً: بوليفارد النصر في حمص..مشروع لإعادة الأعمار أم استثمار للنخبة؟