التخصص الجامعي في سوريا: اختيار محير بين الشغف والراتب

بقلم: هلا يوسف
بعد سنوات من الدراسة والتخرج من الجامعة، كم منا سأل نفسه حول سبب دراسته لتخصصه الجامعي؟ كم منا سأل نفسه ماذا لو درس تخصص آخر يحبه أو يدر عليه مالاً أكثر؟ أعتقد أننا جميعاً طرحنا هذه التساؤلات دون النظر إلى أسباب اختياراتنا، ودون يقين تام بما اخترناه، لذلك في هذا المقال سنحاول مساعدة جيل الشباب على التسجيل بالمفاضلة الجامعية عن طريقة اختيار تخصصه وفقاً لدراسات أكاديمية، بالإضافة إلى التعرف على المهن المطلوبة في سوق العمل بعد رفع العقوبات جزئياً عن سوريا.
اختيار التخصص الجامعي بالقلب أم العقل؟
أعتقد أن معظم الطلاب في سوريا يختارون تخصصاتهم دون معرفة سبب واضح لاختيارها، وغالباً ما ينتهي بهم المطاف بترك الجامعة أو تغيير التخصص مرراً وتكرراً، مع تضييع سنوات من عمرهم في عدم القدرة على تحديد الوجهة، إلا أننا في هذه الفقرة سنعرض عليكم دراسة أمريكية لمعرفة كيف يختار الطلاب لديهم التخصص الجامعي، مع نتائجها لعلها تفيدكم خلال اختياركم.
ففي عام 2021، أجرت جامعة جراند كانيون بالتعاون مع مؤسسة جراند كانيون التعليمية، رحلة استكشافية لفهم الطريقة التي يختار بها الطلاب تخصصاتهم الجامعية. ولتحقيق هذا الهدف أطلق الباحثون استطلاع رأي شمل مشاركين من مختلف أنحاء الولايات المتحدة، بهدف معرفة العوامل المؤثرة في اختياراتهم، والأشخاص أو الأشياء التي تزودهم بتوتر واضح أثناء عملية اتخاذ القرار.
كانت النتائج الأولى مفاجئة، فقد تبين أن غالبية الطلاب يختارون تخصصاتهم بناءً على العاطفة أكثر من العقل. فقد اختار 81% منهم التخصص الذي يحبونه بشغف، بينما كان 19% فقط يسعون وراء التخصصات التي تضمن دخلاً مرتفعاً أو استقراراً مالياً. لكن المفاجأة الغريبة أن معظم الذين اختاروا تخصصهم الجامعي بناءً على ما يحبونه لم يشعروا بالسعادة جراء اختيارهم، لا بل تبين من خلال الاستطلاع أن أكثر من ستة من كل عشرة مشاركين شعروا بالندم لاحقاً على قرارهم، وانتهى الأمر بأن 65% منهم قاموا بتغيير مسار حياتهم المهنية إلى مجال لا علاقة له بتخصصهم الجامعي، وكان السبب الرئيسي لذلك هو البحث عن الاستقرار المالي.
لم يكتف الباحثون عند هذا الحد، بل قرروا الولوج في معرفة مصادر التوتر بالنسبة لاختيار التخصص الجامعي، وبحسب النتائج فإن 48% من المشاركين شعروا بضغط كبير عند اتخاذ القرار الصحيح. وكانت الأسرة العنصر الأكثر تأثيراً، حيث أقر 46% من المشاركين أن الأسرة شكلت أكبر مصدر للضغط لاتخاذ القرار المناسب. لكن المثير للاهتمام هو أن ثاني أكبر مصدر للضغط لم يكن من الخارج، بل من الداخل، فقد شعر 32% من المشاركين بضغط شديد نابع من أنفسهم، نتيجة الرغبة القوية في اتخاذ القرار الصحيح بأنفسهم.
هذا الصراع الناجم عن اختيار التخصص الجامعي يكشف الكثير من التفاصيل، ابتداءً من الرغبة بالاختيار الناجح وتحقيق التوازن بين دراسة مجال نحبه من جهة، وتحقيق الاستقرار المالي من جهة أخرى.
وفي الحقيقة، مسألة الاستقرار المالي وتحقيق دخل مستقبلي أمر هام جداً، فأحد أهداف الدراسة هي الاعتماد على الذات، وإيجاد أرضية مالية ثابتة نقف عليها، وهذا ما سنتحدث عنه في الفقرة التالية.
الدخل المستقبلي جزءٌ من الاختيار الواعي
يستطيع بعض الطلاب اختيار التخصص الجامعي الذي يناسب رغباتهم وما يحبون لأنهم يستندون لثروة عائلية أو دعم مادي معين، لكن عزيزي الطالب قد لا يتوفر لك رفاهية الاختيار هذه، فالعائد المادي قد يشكل أساس دراستك، وإلا ستجد نفسك تكره ما تحب، لأنك بلا مال، عدا عن الضغوط التي ستعيشها بسبب هذا الاختيار.
ووفقاً لتقرير نشرته نيويورك تايمز عام 2004، أصبح الضغط لاختيار التخصص المناسب أكثر حدة من أي وقت مضى، بسبب عوامل مثل ارتفاع تكاليف التعليم والاقتصاد غير المستقر. لم يعد النظر إلى الكلية مجرد فرصة للاستكشاف الأكاديمي أو الشخصي، بل أصبح معظم الآباء والطلاب يرونها استثمار حقيقي يجب أن يدر أعلى عائد ممكن. ويعاني بعض الطلاب من استنزاف مالي ونفسي كبير للحصول على التعليم، خصوصاً في الدول التي تمول الدراسة الجامعية فيها من خلال قروض الطلاب، ما يجعل تحقيق عائد مالي جيد هدف أساسي بعد التخرج.
ومن هنا أقول لك عزيزي الطالب، عليك أن تسقط ذلك على واقعنا في سوريا، في ظل اقتصاد مدمر، وتعليم يحاول النهوض، هل تملك رفاهية اختيار التخصص الجامعي الذي تحبه دون التفكير بالعائد المادي مستقبلاً؟
قبل حوالي أربعة وعشرين عاماً، حاول ثلاثة اقتصاديين من جامعة نورث إيسترن في بوسطن من خلال كتابهم “دليل التخصصات الجامعية والمسارات الوظيفية والمكافآت” College Majors Handbook With Real Career Paths and Payoffs، تحديد مقدار الدخل الذي يمكن أن يتوقعه الطلاب بحسب تخصصاتهم المختلفة. وقد خلص المؤلفون إلى أن اختيار التخصص بناءً على احتياجات سوق العمل كان عاملاً حاسماً لتحقيق النجاح المالي في المستقبل.
استند الكتاب في تحليله إلى بيانات من مكتب الإحصاء الأميركي شملت 150,000 خريج من 60 تخصص جامعي، حيث عرض الوظائف والأرباح الفعلية لكل تخصص. ويقول بول إي. هارينجتون، الخبير الاقتصادي والمدير المساعد في مركز دراسات سوق العمل بجامعة نورث إيسترن وأحد مؤلفي الكتاب: “أداء التخصصات الإنسانية والتعليمية كان، في المتوسط، أقل بكثير من حيث العائد المالي مقارنة بتخصصات إدارة الأعمال والهندسة. ففي عام 2002، بلغ متوسط دخل خريجي الهندسة الكيميائية 75,579 دولار، والمحاسبة 63,486 دولار سنوياً، بينما حققت تخصصات مثل الفلسفة متوسط دخل 42,865 دولار فقط”.
من هذا المنظور، يتضح أن التخصص الجامعي ليس مجرد اختيار أكاديمي أو شغف شخصي، بل قرار مالي واستراتيجي يؤثر على مسار ومستوى حياتك المستقبلية.
اقرأ أيضاً: هل يمكن للسوري الربح من غوغل في سوريا الآن؟
إذاً ما الحل؟
يا عزيزي الطالب، لا تهمل شغفك، لكن في نفس الوقت لا تكتفِ به، وعليك أن تعرف أن كل قرار يحمل في طياته مزايا وعيوب، وخيار التخصص الجامعي مثله مثل أي قرار في الحياة.
ومن هنا أريدك أن تفكر جيداً بالأشياء التي تريدها في الحياة، وتحمل مسؤولية قراراتك، فإذا قررت اتباع شغفك ودراسة تخصص تحبه فقط، فعليك تحمل الأزمات المالية الناتجة عن هذا القرار، وإذا قررت دراسة تخصص يتناسب مع سوق العمل بيغض النظر عن رغباتك، فمن المؤكد أنك ستنعم بالمال، لطن في المقابل عليك تحمل ضغوط عمل لا تحبه، وأيضاً تحمل شعور الندم.
مثال حي على ذلك هو جيون تشاي، خريج جامعة ستانفورد عام 2000، الذي ما زال يأسف بشدة لعدم اختياره التخصص في اللغات الآسيوية. في تدوينة نشرها على الإنترنت، عبر عن غضبه العميق من نفسه، قائلاً: “أنا غاضب جداً لأنني استسلمت لضغط الأقران، وضغط الوالدين، والضغط المجتمعي. كان الجميع يوجه لي سؤالاً واحداً: ‘لماذا تأخذ دروس اللغة فقط؟ فكر في حياتك المهنية في مجال الاستشارات أو الهندسة أو الطب أو القانون.’ انصعت لهذا الضغط، وهو ما ترك في قلبي أسفاً عميقاً لأنني لم أفعل ما أحب”.
هذه القصة تذكّرنا بأن التوازن بين شغفنا ومتطلبات الحياة الواقعية أمر بالغ الأهمية. الشغف يغذي الروح ويمنح الحياة طعماً ومعنى، لكن تجاهله قد يؤدي إلى ندم طويل الأمد، في حين أن الانصياع الكامل للواقع المالي وحده قد يحرمنا من متعة العيش وفق رغباتنا الحقيقية.
الخطة B قد تنقذك في منتصف الطريق
أولاً أريد أن أخبرك أنه لكل شيء حل، سواء قطعت شوطاً مهماً في دراستك ووجد نفسك بطريق مسدود، أو كنت في بداية الطريق، وانطلاقاً من هذه الفكرة لا بد لك من وضع الخطة B أو خطة احتياطية سواء اخترت أن تتبع شغفك الشخصي أو آثرت السعي خلف التخصصات التي تَعِدُك بدخل مادي مستقر. هذه الخطة ستشكل لك مصدر أمان تلجأ إليها في حال تعثر طريقك، وتعود لتضعك على خارطة طريق العمل.
وقد تكون مفيدة هذه الخطة حتى قبل الوصول إلى لحظة التخرج، لأنها تفتح لك المجال لإعادة التقييم وتغيير الاتجاه. فقد أظهر أحد الاستطلاعات أن نحو 30% من طلاب البكالوريوس يغيرون تخصصاتهم مرة واحدة على الأقل قبل التخرج، فيما أقدم 9% من هؤلاء الطلاب على تغيير تخصصاتهم مرتين أو أكثر.
وعندما يحين الوقت لاتخاذ قرار التحول، يصبح من الضروري القيام باستكشاف شامل للخيارات المتاحة. قد يكون لديك فكرة مسبقة عن الاتجاه الجديد الذي ترغب في سلوكه، لكن إن لم تكن متأكداً بعد، فإن الحديث مع شخص تثق به قد يصنع فرق كبير. أحد أفراد أسرتك، أو أستاذ سابق يعرفك عن قرب، قد يساعدك على رؤية الأمور بوضوح أكبر، ويوجهك لاختيار تخصص جديد يتناسب مع اهتماماتك وقدراتك.
وأضيف لك فوق ما سبق، قوي مسيرتك بدورات تعليمية يحتاجها سوق العمل، ربما لن تعمل بشهادتك لكن الخبرات التي تراكمها من دورات تعليمية بمجالات أخرى قد تفتح لك باب لم تتوقعه، مثال على ذلك غرافيك ديزاين، المونتاج، اتقان اللغة الإنكليزية، صناعة المحتوى وغيرها.
جميع المجالات التي ذكرتها تحتاج للإبداع في أغلبها أكثر من شهادة تلصقها على جدار غرفتك، أو تتباهى بها أنت وعائلتك، وأريد أن أنوه إلى أنني لا أشجع ترك الدراسة للعمل بهذه الوظائف، بل من الممكن خلال ممارستك لها أن تكتشف ما تريد دراسته بالفعل، وقرن الدراسة الأكاديمية بالخبرة.
ولمساعدتك في الاختيار سأنقل لك عزيزي الطالب أبرز المهن المطلوبة في سوق العمل في سوريا بعد رفع العقوبات الجزئية عن بلدنا.
المهن المطلوبة في سوق العمل بعد رفع العقوبات الجزئية
أولاً لا بد من الإشارة إلى أن هذه التخصصات تعد فرصة ذهبية لعدة أسباب، أبرزها التحول المتسارع نحو الرقمنة والطاقة البديلة، وازدياد حاجة السوق المحلي إلى مهارات نادرة ومتخصصة. كما أن دخول شركات جديدة تبحث عن كوادر مؤهلة يفتح المجال أمام فرص عمل واسعة، بالإضافة إلى إمكانية العمل الحر أو عن بعد، ما يمنح هذه التخصصات قيمة إضافية.
1. تعلم تصميم وبرمجة مواقع الويب في سوريا
أصبحت مواقع الإنترنت من أهم الأدوات التسويقية والخدمية للشركات، خاصة مع ازدهار المشاريع الرقمية محلياً وعالمياً. وتشمل التطبيقات الأكثر طلباً المتاجر الإلكترونية، المواقع الإخبارية، وصفحات الشركات والخدمات المختلفة.
تتطلب هذه المهارة إتقان لغات وتقنيات مثل: HTML, CSS, JavaScript, PHP بالإضافة إلى منصات إدارة المحتوى مثل WordPress.
2. تعلم تركيب منظومات الطاقة الشمسية في سوريا
بسبب الانقطاعات المستمرة للتيار الكهربائي، تتجه سوريا بشكل متزايد نحو حلول الطاقة المتجددة، وعلى رأسها الأنظمة الشمسية.
تتضمن المهارات المطلوبة في هذا المجال: تصميم الأنظمة الشمسية، تركيب الألواح والبطاريات، حساب الأحمال الكهربائية، وصيانة المنظومات.
3. تعلم التصميم الجرافيكي (Graphic Design) في سوريا
كل مشروع يحتاج إلى هوية بصرية قوية تعكس صورته الاحترافية، بدءاً من تصميم الشعارات وصولاً إلى البروشورات والمحتوى الرقمي. لذلك يحظى المصممون بفرص عمل متزايدة في السوق.
أهم الأدوات المستخدمة في هذا التخصص هي: Photoshop, Illustrator, InDesign.
4. تعلم الموشن جرافيك والمونتاج في سوريا
في عصر يسيطر فيه المحتوى المرئي على الإعلام والتسويق، تبرز الحاجة الكبيرة إلى متخصصي الموشن جرافيك والمونتاج لتطوير حملات جذابة وفعالة.
من أهم البرامج المطلوبة في هذا المجال: After Effects, Premiere Pro, CapCut.
5. تعلم برمجة وفحص السيارات في سوريا
مع تعقيد أنظمة السيارات الحديثة واعتمادها بشكل متزايد على البرمجيات، أصبحت البرمجة والفحص الإلكتروني تخصصاً أساسياً في سوق الصيانة.
تشمل الأجهزة الأساسية: OBD2, Launch, Autel، أما المهارات فهي: قراءة الأكواد، تعديل البرمجيات، وإجراء التحديثات البرمجية للوحدات.
6. تعلم التحكم الصناعي PLC في سوريا
إعادة إعمار القطاع الصناعي في سوريا يتطلب مختصين قادرين على برمجة وتشغيل أنظمة التحكم الآلي (PLC) التي تدير خطوط الإنتاج.
المنصات الشائعة في هذا المجال هي: Siemens, Delta, Schneider، بينما تتركز المهارات حول Ladder Logic, HMI, SCADA systems.
7. تعلم تركيب أجهزة الإنذار وكاميرات المراقبة في سوريا
مع تزايد الحاجة إلى تعزيز الأمن في المنشآت التجارية والسكنية، يزداد الطلب على فنيي أنظمة الحماية.
يشمل هذا التخصص: تركيب كاميرات IP وAnalog، أنظمة DVR/NVR، حساسات الحركة والحرارة، وربط الأنظمة بالإنترنت والموبايل.
في نهاية المقال نكون قد وضعناك عزيزي الطالب في الجو العام لسوق العمل من جهة، وطريقة اختيار التخصص الجامعي من جهة أخرى، والقرار الأخير لك.
اقرأ أيضاً: الإبداع البشري..كيف تسرق المدارس مواهب أطفالنا!




