الكاتب: أحمد علي
على الرمال المتحرّكة لشمال وشرق سوريا، تعيد الولايات المتحدة رسم خرائط وجودها العسكري، في خطوة لا يمكن اعتبارها مجرّد انسحاب تكتيكي، بل أشبه بإعادة تموضع ضمن لعبة شطرنج إقليمية ودولية معقدة. في هذا المشهد المترنّح بين الفراغ الأمني المحتمل وصعود لاعبين قدامى بجلباب جديد، تلوح في الأفق احتمالات لتحوّلات استراتيجية، ليس أقلّها تقارب خجول وربما مشروط بين واشنطن ودمشق. لكن هل يقود هذا الانسحاب من سوريا إلى تفاهمات أم إلى فوضى؟ وهل تملك سوريا، بما تمثله الحكومة الحالية، مفاتيح مرحلة ما بعد الغياب الأميركي؟
الانسحاب من سوريا
خلال الأشهر الماضية، بدأت واشنطن تقليص وجودها العسكري في سوريا، عبر انسحاب تدريجي لقوات التحالف الدولي من خمس قواعد في شرق وشمال شرقي البلاد. وتشير تقارير متقاطعة إلى أن هذا الانسحاب قد يشمل مستقبلاً كل القواعد الأميركية باستثناء قاعدة واحدة، يُبقي فيها نحو 500 جندي، مقارنة بما كان يُقدّر سابقاً بنحو ألفي عسكري.
وهذا التراجع يأتي في وقت تشهد فيه السياسة الخارجية الأميركية مراجعة للأولويات، خصوصاً في ظل التحديات الاقتصادية وتضخم النفقات الدفاعية. فالوجود العسكري المكثف لم يعد يحقق مكاسب تتناسب مع كلفته، سواء في مواجهة تنظيم «داعش» أو في إدارة موازين القوى المحلية.
قلق من عودة «داعش» وتوسع النفوذ الإيراني
يخشى مراقبون أن يتيح الانسحاب الأميركي لتنظيم «داعش» فرصة إعادة هيكلة خلاياه وشنّ هجمات مفاجئة في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة الجديدة. كما تبرز مخاوف من توسّع أدوار الفصائل المدعومة من إيران، واستغلال روسيا للوضع لتثبيت أقدامها أكثر في الملف السوري.
لكن في المقابل، هناك من يرى أن الانسحاب من سوريا قد يدفع إلى تسويات داخلية، عبر تفاهمات بين «قسد» والحكومة السورية، وربما حتى تحت رعاية أميركية غير مباشرة، تهدف إلى ضبط إيقاع المشهد وضمان المصالح الاستراتيجية لواشنطن دون الحاجة إلى وجود عسكري مباشر.
هل تبحث واشنطن عن شريك “واقعي” في دمشق؟
يطرح بعض المحللين احتمال حدوث تحوّل نوعي في نظرة واشنطن تجاه دمشق. فرغم سنوات القطيعة، لا يبدو هذا السيناريو مستحيلاً إذا ما تغيرت معطيات اللعبة السياسية. فالتعاون العسكري أو الأمني، أو حتى في مجال إعادة الإعمار، قد يصبح خياراً مطروحاً إذا قدّمت الحكومة السورية تنازلات جوهرية، مثل إنهاء أو تقليص النفوذ الإيراني وتقديم ضمانات والتزامات جدية بمحاربة الإرهاب.
ووفق تقارير، فإن فكرة إعادة تأهيل العلاقة مع دمشق لا تخرج عن نطاق المصالح الأميركية، وليس عن أي «رغبة تطبيعية» بحد ذاتها. إذ تبقى واشنطن مستعدة لتبديل أدواتها متى توفرت فرص أفضل لتحقيق أهدافها في المنطقة، ومنها احتواء التهديدات وخلق توازن جديد للقوى.
اقرأ أيضاً: من هو توماس باراك وما أهمية تعيينه سفيراً لأمريكا في سوريا؟
قراءة مزدوجة للقرار الأميركي
في حديثه حول الأمر، يرى الباحث في العلاقات الدولية طارق وهبي، المقيم في باريس، أن الانسحاب الأميركي لا يعني بالضرورة تخلياً كاملاً عن المسرح السوري. فواشنطن تحتفظ بقاعدة «إنجرليك» التركية، ما يمنحها قدرة لوجستية على تنفيذ تدخلات سريعة عند الحاجة. ويعتبر وهبي أن الانسحاب يتم بالتنسيق مع «قسد» ومع الجانب التركي، ما يشير إلى أن واشنطن تعيد ترتيب أوراقها دون التفريط بنفوذها تماماً.
ويضيف وهبي أن التحول في الموقف الأميركي قد يشمل فتح قنوات تنسيق مع الحكومة السورية، وربما إنشاء برامج تدريب عسكرية لقواتها، في حال توفرت ضمانات بالتقليل من التأثير الإيراني على القرار في دمشق.
من جهته، يرى الباحث السياسي الدكتور ميشال الشمّاعي أن واشنطن تنسحب بهدف ترك سوريا أمام اختبار داخلي، يتمثل في قدرة النظام السوري على إدارة البلاد بدون دعم دولي. وفي رأيه، فإن الولايات المتحدة تسعى أيضاً إلى إطلاق صراع داخلي بين «الإسلام السياسي» متمثلاً في تنظيمات متشددة، و«الإسلام الشيعي» المتمثل بالوجود الإيراني، كوسيلة لإضعاف الطرفين في آن.
ويعتبر الشمّاعي أن النجاح السوري في كبح جماح الإسلام السياسي، مع التقدم في ملف التطبيع الإقليمي، قد يجعل من دمشق شريكاً مقبولاً لدى واشنطن في خريطة الشرق الأوسط الجديدة.
ولا يرى الشمّاعي أن التصعيد بين إيران وإسرائيل سيُفضي إلى تغيير في موقف الإدارة الأميركية من مسألة الانسحاب من سوريا، إذ يعتبر أن الملفين، رغم ترابطهما الجيوبوليتيكي، يختلفان تماماً من حيث القراءة الجيوستراتيجية. فبينما يشكّل الامتداد الجغرافي الذي يربط سوريا بالعراق ثم إيران محوراً من الناحية الإثنية والديموغرافية، إلا أن التفاعل الأميركي مع كل من الساحتين السورية والإيرانية يخضع لمنطق مصلحي مختلف.
في هذا السياق، يشير الشمّاعي إلى أن واشنطن تتعامل مع الملف السوري انطلاقاً من زاوية أمنية صرفة، يطغى عليها الاعتبار الإسرائيلي، بينما تنظر إلى إيران من منظور اقتصادي – استراتيجي أوسع.
وفي ضوء هذا الفصل بين المقاربتين، يرى الشمّاعي أن الحكومة السورية باتت مطالبة بإثبات قدرتها على حماية المصالح الأميركية في الداخل السوري. ومن وجهة نظره، فإن هذا قد يشكّل فرصة للرئيس الحالي لترسيخ شرعيته من خلال فتح قنوات تواصل حقيقية مع واشنطن، لا سيما إذا اختار الانخراط في مسار التطبيع الإقليمي وتبنّى مساراً سياسياً يتجه نحو تقليص نفوذ الإسلام السياسي في البلاد.
ويؤكد الشمّاعي أن الرهان الأميركي على دمشق لن يكتمل إلا إذا تمكنت من اجتياز اختبارين محوريين: الأول يتمثل في القضاء على الحركات الإسلامية المتشددة، والثاني في المضي نحو بناء دولة مدنية تحتكم إلى القانون بعيداً عن الأطر الدينية المتصلبة. عندها فقط، يمكن للولايات المتحدة أن تعتبر أن شراكتها مع دمشق باتت ممكنة وفعالة على حد تعبيره.
إيران وإسرائيل على طاولة الحسابات
تلعب المواجهة بين إيران وإسرائيل دوراً كبيراً في تحديد تموضع الولايات المتحدة في سوريا. فبينما يرى البعض أن التوتر الإقليمي سيدفع واشنطن للتمسك بوجودها، يرجّح آخرون أن الإدارة الأميركية تفضل عدم التورط في حرب إقليمية مفتوحة، خاصة مع تحوّل دورها إلى مراقب ومموّل للطرف الإسرائيلي، عبر الدعم اللوجستي والاستخباراتي. ووفق هذا المنظور، قد يصبح التعاون مع دمشق وسيلة لحصر النفوذ الإيراني وتحييد بعض أدواته في سوريا.
وربما تكون إعادة الإعمار الملف الأكثر حساسية في أي تفاوض محتمل بين الولايات المتحدة وسوريا. فواشنطن تعلم أن الدولة السورية بحاجة ماسة إلى الدعم المالي والفني لإصلاح البنية التحتية، خاصة بعد سنوات الحرب والعقوبات.
وبينما ترفض قطاعات داخل الإدارة الأميركية التعاون مع نظام دمشق دون تغييرات سياسية واضحة، قد يرى بعض صناع القرار أن هذا الملف يمكن استخدامه كأداة للضغط نحو إصلاحات داخلية وتوازن سياسي جديد. خاصة إذا ما ترافق مع انسحاب روسي جزئي، أو على الأقل تقليص حجم تأثير موسكو في الداخل السوري.
من الانسحاب إلى الشراكة.. هل تنجح الصفقة؟
لم يعد الانسحاب الأميركي من سوريا مجرد خبر عسكري، بل بات مفتاحاً لتحوّلات سياسية كبرى. فواشنطن، التي تخفف من ثقلها الميداني، قد تكون في الواقع تعيد رسم قواعد اللعبة، عبر الانسحاب المشروط والدفع نحو تسويات غير معلنة. لكن السؤال المطروح: هل تمتلك دمشق المرونة الكافية لتتحوّل من خصم إلى شريك؟ وهل يقرأ اللاعبون الآخرون هذا التحوّل قبل أن يصبح أمراً واقعاً؟
الوقت وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن خريطة القوى في سوريا مقبلة على تغيّر جذري، عنوانه الأبرز: الفراغ لا يدوم طويلاً… ومن يملأه يكتب التاريخ.