هل سيخفف الاستيراد أعباء المواطن السوري؟!

الكاتب: أحمد علي
تزدحم الأسواق السورية الآن بسلع تركية وأخرى أردنية وغيرها، بينما تخلو كثير من المصانع المحلية من أبسط معدات الإنتاج.. ففي مرحلة انتقالية حسّاسة تشهدها سوريا بعد سقوط الأسد، تبدو السياسة الاقتصادية السورية شديدة الاعتماد على الاستيراد بدلاً من تعزيز الصناعة والزراعة المحلية. وتخفي هذه الخطوة للوهلة الأولى عدة خلفيات تنموية واجتماعية، لكنها تثير في الوقت نفسه جدلاً واسعاً حول جدواها على المواطن السوري ومعيشته. فما هي دوافع هذا التوجّه نحو الاستيراد، وهل سينجح في تخفيف معاناة السوريين أم أنه سيقضي على شريان الإنتاج الوطني.. والمواطن؟!
الاستيراد عوضاً عن الإنتاج: خلفية ودوافع اقتصادية
لقد بات واضحاً أن الاقتصاد السوري يعاني من انهيار شامل بعد عقود من الحرب والعقوبات. إذ تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي انهار بنحو 85% منذ 2011، ووصلت نسبة السوريين تحت خط الفقر إلى حوالي 90%. وفي ظل هذا الانهيار، يواجه قادة المرحلة الانتقالية الجديدة تحدياً كبيراً لضخ السلع الأساسية في السوق وتحريك عجلة الاقتصاد.
فمن وجهة نظر الحكومة الحالية، يبدو الاستيراد المكثف خياراً سريعاً لتوفير المستلزمات والوقود والأدوية والآلات التي تعجز البنى الإنتاجية المحلية المُدمرة عن توفيرها. فاللجوء إلى فتح السوق أمام البضائع الأجنبية يساهم أولاً في توفير العملات الصعبة مقابل الواردات اللازمة، وهو أمر ملحّ في بلد تراجع احتياطه من العملات الأجنبية إلى مستويات متدنية.
ويرى بعض السوريين أن هذا التوجّه ليس مخالفاً للمصلحة الوطنية. ففي استطلاع للرأي نفذته وكالة نورث برس في دمشق قال البعض إن تشكيلة المنتجات المستوردة تساعد على خلق تنوع في السوق وخفض الأسعار بما يصب في مصلحة المواطن. فعلى سبيل المثال، علّق نور الدين آغا بأن “فتح الاستيراد لا يعني إضعاف المنتج الوطني، بل يمكن أن يخلق تنوعاً في السوق ويؤدي إلى خفض الأسعار، مما يصب في مصلحة المواطن”.
وذهب هذا الطرح إلى حدّ اعتبار أن وجود منافسة مع المنتجات المحلية قد يُجبر الصناعة والمزارع السورية على تحسين جودة منتجاتها والاستمرار بالتطوير.
إلا أن ردّ الفعل الشعبي كان في مجمله معارضاً لاستيراد الزائد في هذه المرحلة. يقول محمد قندقجي، أحد سكان دمشق، مخاطباً جهات القرار: «لدينا منتج زراعي ضخم ومتنوع، فلماذا نستورد من تركيا أو الأردن؟ هذا الأمر يضر المزارعين السوريين ويهدد دخلهم». ويطالب مواطن آخر من أصل زراعي بدعم لا غنى عنه للمنتج المحلي، خصوصاً للقمح والحمضيات التي يشتهر بها البلد، مبرزاً أنّ «دعم المنتج الزراعي المحلي أفضل من إنعاش اقتصاد الدول المجاورة على حسابنا».
ويخشى هؤلاء المواطنون أن يؤدي التوسع في استيراد الحبوب والخضروات واللحوم وغيرها إلى إغراق السوق بالسلع الأجنبية الرخيصة على حساب المنتج السوري، لا سيما في ظل غياب برامج إغاثة قوية لتأهيل المزارعين ودعمهم.
يرى فريق من مستشاري الحكومة الاقتصاديين أن سوريا بحاجة ماسة لطمأنة السوق والمواطن عبر وفرة السلع والخدمات، وهذا يتم بسرعة عبر الاستيراد الحر وتخفيض الرسوم الجمركية. ويقول هؤلاء إن تخفيف القيود التجارية يمكن أن يساعد على خفض الأسعار مؤقتاً ويمنع شح السلع. لكن تقديرات أخرى تحذر من أن فتح الباب للبضائع دون خطة مدروسة لن يكون إلا طوق نجاة وهمياً، خصوصاً وأن سوريا لا تزال تعاني من ضعف كبير في القوة الشرائية لدى غالبية السكان.
وفي أولويات المرحلة، لا يغيب عن الأذهان ضرورة إحياء الصناعة والزراعة التي تشكلان، كما كان معروفاً، أساس الاقتصاد قبل اندلاع الأزمة. لذلك ثار الجدل بين من يعتبر الاستيراد حلاً سريعاً وبين من يشدد على أن إهمال الإنتاج الوطني يحمل مخاطر أكبر على المدى الطويل.
مخاطر السياسات التجارية غير المنضبطة
مع اشتداد النقاش حول الاستيراد، حذر اقتصاديون سوريون مخضرمون من مغبة إطلاق العنان للواردات بلا ضوابط. فقد اعتبر الخبير الاقتصادي جورج خزام، أن فتح باب الاستيراد بشكل غير مدروس سيؤدي إلى «تدهور القطاعين الزراعي والصناعي الوطنيين ويزيد من معدلات الفقر»، وهي حالياً تبلغ حوالي 80% من السكان بمتوسط دخل شهري لا يتجاوز 40 دولاراً.
وحسب تحليله، فإن تطبيق قواعد الاقتصاد الحر المطلقة في ظل الظروف السورية الراهنة قد يرفع نسبة الفقر إلى 85% ويقلّص الطبقة الوسطى إلى حدود 5% فقط. وعزا خزام ذلك إلى افتقاد السوق السورية إلى طبقة وسطى قوية تستطيع توفير عمود فقري للطلب على المنتجات؛ فغالبية السكان تعيش تحت خط الفقر ولا تمتلك القوة الشرائية اللازمة لتحفيز الطلب على السلع، مما يعني أن أي سياسات تحرير تجاري ستصبّ في نهاية المطاف في جيوب القلة الغنية على حساب البقية الفقيرة.
وقد عززت هذه التحذيرات معطيات تتعلق باستقرار العملة الوطنية. فبحسب الخبير تيسير المصري، أستاذ الاقتصاد بجامعة دمشق، فإن «أي عملية استيراد مكثف تعني زيادة شراء الدولار مقابل الليرة السورية»، ما يؤدي إلى ضغط متزايد على الاحتياطي من العملة الصعبة وإلى انخفاض قيمة الليرة.
وسبق أن لوحظ أن الرواج في الواردات في الفترة الأخيرة أدى إلى زيادة عرض الليرة مقابل الطلب على الدولار، مما سبب هبوطاً متسارعاً في سعر الصرف وآثر سلباً على قوة الشراء للسوريين. ويرى الدكتور المصري أن استمرار هذا التوجّه دون سياسة واضحة قد يتحول إلى «خطأ استراتيجي فادح»، لأن أضرار الاستيراد العشوائي ستفوق فوائده، لاسيما وأنه لا يوجد في الوقت الراهن سياسة اقتصادية تقضي بتحديد نوعيات ما يمكن استيراده وكمية الواردات اللازمة دون الإضرار بالمصالح المحلية.
ويحذِّر الخبير مجدي الجاموس من أن تشجيع الاستيراد في مرحلة تعافي هشة سيقود حتماً إلى هشاشة في قاعدة الإنتاج. فالجاموس، وهو أستاذ في كلية الاقتصاد، يشير إلى أن سيل المنتجات الرخيصة سيجعل القطاع الزراعي والصناعي السوري «رهيناً لتقلبات الأسواق العالمية» وليس قادراً على منافسة اليد العاملة الرخيصة والأسعار المنخفضة المنتجة في دول الجوار.
ويشير إلى أن إدخال بضائع أرخص، من الخارج، في هذه الظروف سيؤدي إلى «إضعاف الزراعة والصناعة الوطنية»، مُنوِّهاً بأن ذلك «خطر يهدد الاقتصاد الوطني»، خصوصاً وأن البلاد أحوج ما تكون الآن إلى دعم اقتصادها وتعزيز المنتج المحلي لا إلى إغراقه بالمنافسين. وفي هذا السياق، يؤكد تقرير تحليلي أن نجاح إعادة الإعمار السوري يستلزم توفير بيئة استثمارية شاملة ودعم قوي للقطاعات الإنتاجية والمصانع الصغيرة والمتوسطة.
وعلى غرار ما حصل في العديد من دول العالم، يكون خيار حماية الصناعة الوطنية من الواردات أحد أساليب التوجيه الإداري للاقتصاد في مرحلة الانتقال. فقد أوضح جورج خزام في سياق قرار الحكومة وقف استيراد السيارات المستعملة أن من إيجابيات القرار كان “تحول رأس المال العامل المستورد إلى الاستثمار في زيادة الإنتاج والصناعة” بالإضافة إلى تراجع الطلب على الدولار بهدف الاستيراد وحماية المستهلك من الغبن.
ويؤكد باحثون اقتصاديون آخرون أن وقف الاستيراد العشوائي سيخفّض حجم تحويلات الليرة إلى الخارج ويُعيد توجيهها للاستثمارات المحلية، كما قد يحسن من نوعية الواردات بتفضيل السيارات الحديثة الآمنة على حساب السيارات المستعملة القديمة.
إن هذه التحذيرات مجتمعة تؤكد أن الاعتماد الكلي على الاستيراد بدلاً من الإنتاج قد يعالج نقص العرض بشكل مرحلي، لكنه يفاقم العوائق البنيوية للاقتصاد السوري: تآكل القاعدة الصناعية والزراعية وزيادة البطالة وارتفاع الطلب على الدولار وضعف قوة الليرة.
الإنتاج المحلي: الطريق نحو التعافي
بناءً على ما سبق، يبدو جليّاً أن الخلاص الحقيقي للأزمة السورية يمر حتماً بإحياء الإنتاج المحلي. وفي رأي جورج خزام وغيره من الخبراء، يتطلب ذلك سياسة توسعية لصناعة الزراعة والصناعة الوطنية بحيث تصبح تكاليف الإنتاج محلياً أقل من تكاليف الاستيراد.
ويُعبِّر البعض عن ذلك بالقول إن التركيز يجب أن يتحوّل نحو تعزيز القدرات الإنتاجية عبر دعم القطاع الزراعي والصناعات الصغيرة، ومنح تسهيلات للمستثمرين مع مراقبة الأسعار وحماية القوانين بحيث لا تُهدم ثقة المعامل المحلية بقرارات متقلّبة. ووفق هذا المنظور، لا بدّ من خلق بيئة اقتصادية محفزة من خلال الاستثمار في البنى التحتية وتخفيض كلفة التمويل، وإصلاح النظام المصرفي لاستعادة الثقة وجذب رؤوس الأموال السورية في الخارج.
ختاماً، تؤكد مختلف الآراء أن التركيز على الاستيراد عوضاً عن الإنتاج لن يكون حلاً سحرياً لمشكلات المواطن السوري. فقد تُخفف السلع المستوردة بعض ضيق العرض على المدى القصير، ولكنها قد تحرم البلاد من دعائم مستقبلية حيوية. فالاستيراد يزود السوق بكمية وسلع عند الحاجة، لكن الإنتاج المحلي هو الذي يوفر فرص عمل ويؤسس للاقتصاد المتين.
وبناء عليه، يخلص الخبراء إلى أن الوقت الراهن يتطلب حزمة متوازنة من الإجراءات: رفع المعاناة عن المواطن عبر الاستيراد المحدود للضروريات، وفي الوقت نفسه مضاعفة الجهود لإعادة تشغيل المعامل والمزارع المحلية وتسهيل تمويلها وتصدير إنتاجها، وذلك حتى يتمكن الاقتصاد السوري من تنفس الصعداء من خلال إنتاجه وليس مجرد استهلاكه.
اقرأ أيضاً: حمشو نموذجاً: هل يعيد رأس المال إنتاج نفوذه في المرحلة الانتقالية؟




