جامع الحضارات ومهدها، ذاك الركن الغامض من الكرة الأرضية صاحب السحر والتنوع، يفتن كل من يقترب من مجاله. إنه “الشرق”. لطالما استفزت الحضارة المشرقية وعلومها الدفينة الغربيين للاكتشاف والغوص في مكنوناتها، فتمخض عن ذلك “الاستشراق” وهو مصطلح يستخدم للإشارة لدراسة كيفية النفوذ المتبادل بين الشرق والغرب، وبمعنى أدق هو نظام مكرس لدراسة الشرق ويطلق عليه “علم الشرق”. وتشكلت نظرة الغرب تجاه الشرق باعتباره أرضاً للغيبيات والأساطير التاريخية والفلسفات لكن بعيون متعاليه ومُتَفضله، فمثلاً لو أراد المستشرقون الغربيون توصيف حضارة بلد مشرقي كسوريا بحدودها الطبيعية الحالية يبدأ الحديث لديهم بسوريا البيزنطية والرومانية ناسبين كل هذا الإرث إلى أجدادهم، محاولين بذلك طمس هوية الشرق وروحه بتطبيعها بأيديولوجياتهم وأهوائهم التي استغلت الاستشراق وجعلته بوابه استعمارية غزت من خلالها دول المشرق، وهنا تكمن المعضلة في الصراع الأزلي بين الغرب والشرق. فالحملة الفرنسة على مصر خير مثال، فلقد بدأت هذه الحملة من خلفيه استشراقية حاملة مظاهر الاستشراق في بدايتها ثم كشفت عن وجهها الاستعماري في نهاية المطاف.
فالاستشراق هو ظاهرة انفتاحيه وحركة ثقافية واستكشافية لم تبرأ من تأثيرات الهوى الغربي والنزعة القومية، وتخللها مسحة استعمارية شكلت الكثير من دراسات المؤرخين وصاغت العديد من كتبهم عبر عصور مختلفة، فلم تعد تمثل مراجع يستقى منها بقدر ما مثلت أهواء وغايات ونوعيه تجارب موجهه تخدم فكر وتوجه ما يراد به التربص بالمشرق واستغلاله أكثر من التعرف عليه واستكشافه.
كيف عالج الاستشراق التاريخ المشرقي، وما سبب صراع الغرب والشرق؟
دراسة الشرق لدى الغربيين كانت قائمة على مبدأ ” الشك المطلق” في كل شيء، وكان هناك تسليم كلي لفكر الغرب ومسلكه في التفكير، فتلبس المستشرقون دور الاستاذ الناقد وليس الباحث المتجرد، في محاولة منهم لتسخيف كل ما هو جوهري ومحوري في الشرق.
فتعاملت هذه العقلية مع معطيات الشرق على أساس التفسير المادي للتاريخ، مهمله البعد الروحي للقيم التاريخية الموجودة في الشرق، متجاهلة أن الشرق مصدر النور وأصل الديانات ومنطلق البدايات ومفترق النهايات، متغاضين عن الاعتماد على قواعد التفكير والأساليب البحثية المقررة، مكتفين بالشك والنقد والحكم المجرد على الأصول الواضحة.
فمعالجة الاستشراق لتاريخ المشرق بطريقة متعالية ومتعجرفة ومضلله هي ما جعلت الشرق بوجه الغرب، وادخلت الجانبين في بوتقة صراع تاريخي، إيديولوجي، اجتماعي مازال قائماً حتى اليوم رغم تقويم بعض المستشرقين لتلك النظرة وتحييدها.
فالمستشرقون قاموا بدراساتهم الاستشراقية بدوافع دينية تبشيرية ، وأحياناً كانت هناك وراء تلك الدراسات دوافع استعمارية فعمدوا إلى تجاوز الثغور الجغرافية الأرضية، وأحلّوا محلها الحدود الجغرافية الدينية، وحصروا الرقعة الجغرافية للاستشراق في حدود الأقطار ذات الطابع الإسلامية فقط.
وجاءت سلبيات الاستشراق وابتعاد المستشرقين عن الموضوعية والعلمية في كثير من الأحيان لعدة أسباب منها: ارتباط بعض المستشرقين بالكنيسة، وتعبيرهم عن وجهة نظرها وما تبنته في ذلك الوقت، وربما كان هذا أكثر وضوحاً في القرون المتوسطة، إلى جانب ارتباط بعض المستشرقين بالدوائر الاستعمارية، كان ذلك عبر إنشاء حكومة الثورة الفرنسية مدرسة اللغات الشرقية بباريس 1795م، وكان ناظرها “سلفستر دي ساسي” وعلى يديه تعلم كبار المستشرقين الاستعماريين في أوروبا، وكان في تلاميذه نخبة كبيرة صاحبت نابليون في احتلال مصر عسكرياً من جانب قوات نابليون 1798م، واحتلال الشام 1799م.
وهناك سلسلة طويلة من أسماء المستشرقين المرتبطين بالدوائر الاستعمارية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، ويمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال: لورنس الذي عمل مستشار للملك فيصل بي الحسين أثناء الحرب العالمية الأولى، وبرنارد لويس الذي يوجه الإدارة الأمريكية في الشؤون العربية.
وأبرز أسباب الصراع الإيديولوجي المشرقي الغربي يكمن بالاعتقاد بمركزية أوروبا وتفوق الحضارة الغربية، فاعتقد المستشرقون بأن حضارتهم هي الحضارة الأرقى في تاريخ البشرية، وأنها الحضارة الأمثل، وأنها هي التي يجب أن تسود.
إلى جانب اعتقادهم بتفوق العرق الأبيض، فبنظرهم هو العرق الأرقى، تجاوباً مع المقولات العرقية السائدة آنذاك، والتي كانت ترى الاستعمار رسالة واجبة لصالح الشعوب المستعمَرة، وأن المستعمرين يحققون الإرادة الإلهية في استعمار آسيا وأفريقيا وإدخالهما عالم الحضارة، وأن دون هذا العرق وتدخلاته العالم عالق ببراثن الفوضى والجهل.
كذلك انتشرت نظريات في القرن التاسع عشر تحدثت عن تفوق اللغات الآرية على اللغات السامية، وانتقلت هذه العدوى إلى المستشرقين فقالوا بما قالت به النظريات المعاصرة لهم، وتجاهلوا الأصول والفكر الحر المتجرد وجنحوا للتطرف والتعصب الذي يخدم مصالحهم.
اقرأ أيضاً: القلاع في سوريا شواهد تاريخية
الاستشراق وحلّه جديدة بين انتقاد التعالي والفكر المختلف
بعد أزمة الثقة المفقودة من الجانبين نتيجة الغطرسة الغربية والروح الاستعمارية التي ظهرت وكشرت عن أنيابها تجاه المشرق، ونظرت إليه كفريسة ومنجم ثروات وعلوم يجب نهبها، وبفعل الفكر الغربي المتعنت المشبع بالتعالي والعجرفة، كان لابد من الانصاف وإرجاع الأمور إلى نصابها الطبيعي وقول الحقيقة بكل تجرد وتسميه الأشياء بمسمياتها بعيداً عن أي انحياز أو تطرف.
فجاء المفكر الفلسطيني الأميركي “إدوارد سعيد” وأصدر كتابه الشهير عن الاستشراق، وكان ذلك بمثابة المواجهة الموضوعية لقضايا الاستشراق والمستشرقين منذ بدأ اهتمام الغرب بالشرق عربياً وإسلامياً آسيوياً وإفريقياً.
وانتقد في كتاباته العجرفة والاستعلاء وعدم الفهم الحقيقي لروح الشرق، ودعا لفهم كل محاولة لاستقراء تاريخ حركة الاستشراق وإلى فهم الملابسات التي ارتبطت بها وأحاطت بظروفها، كما نوه إلى أنه لا يخفى على أحد أن الاستشراق قد مضى متواكباً مع تنامي الظاهرة الاستعمارية الوافدة من الغرب إلى الشرق، بل إن كثيراً من المستشرقين كانوا يتحركون وفقاً لأهداف سياسية وغايات قومية خرجوا بها من بلادهم لتحقيق أهداف معينة ونتائج مرسومة. ما يدحض تلك العناوين البراقة للمستشرقين التي كانت تنادي بجلب الحضارة للشرق “المتخلف” على حسب اعتقادهم.
وما يميز نقد سعيد للاستشراق هو أنه حاول أن يفكك بنيته بذات الأدوات المعرفية التي يتكئ عليه هذا الخطاب، بعيداً عن المحاكمات الإيديولوجية والأحكام المسبقة التي عادة ما صاحبت كل محاولة للكتابة عن هذه المؤسسة المرتبطة قليلاً أو كثيراً بالمشروع الامبريالي الغربي.
كما ويحسب للمؤرخ والباحث جان كلود دافييد تلك النظرة المختلفة عن النظرة الاستشراقية السائدة تجاه مدن الشرق وتاريخهم، ففي كتابه “حلب تراث وحضارة”، حيث رصد ملامح حلب وحضاراتها بعين من الحيادية في توصيف مدينة متعددة الأعراق والملامح، وقدم صور غير منحازة أو معتادة أو مفلتره وفقاً لسردية معينه، انطلقت أساساً من مبدأ علمي ومن معاينات كاشفة بعمق للخفايا وملامح المدينة وتاريخها وحكاياتها المنسية.
ختاماً، الاستشراق هو حركة فكرية ذات دوافع إيديولوجية مغلفه بشعارات رنانة مزيفه، مصبوغة برؤية فوقية لمشرق يشكل محط للأطماع الاستعمارية، لذلك يجب الخروج من جلباب الاستشراق النمطي باتباع العديد من السبل: كتطوير نقد ذاتي للذات الشرقية، ومحاولة البحث عن مصادر معرفية بديلة للمنتجة غربياً المقولبة لتخدم نظره معينه وتوصيف محدد تجاه الشرق، إلى جانب تبني منهجيات بحثية ذات أبعاد متعددة تبرز الحقيقة من جميع زواياها، مع التشديد على خصوصية التجربة الشرقية وروايتها بلسان مشرقي أصيل متجذر.
اقرأ أيضاً: حلب بعيون الكاتب الفرنسي جان كلود دافيد