من الجلي بأنّنا أمام تزايد الاهتمام الشعبي بفهم الشأن الاقتصادي في سوريا، وفي محاولة لتلبية هذا النهم الشعبي، برزت أصوات مستقلة تحاول أن تفسّر ما يجري بلغة الناس، دون الانزلاق إلى التبسيط المخل أو التنظير الأكاديمي الجاف. من بين هذه الأصوات، يبرز الخبير الاقتصادي جورج خزام – الذي تمّ تعيينه منذ 26 نيسان الماضي كمستشار تنفيذي في وزارة الاقتصاد والصناعة، كمستشارٍ لشؤون السيولة والنقد – كأحد الأصوات التي تقوم بهذا التفسير.
إنّ خزام خبيرٌ غزير النشر على فيسبوك، ما يجعل متابعته تفضي إلى معارف غنية، تتناول قضايا النقد، والسياسة المالية، والقطاع العام، والإنتاج المحلي، بجرأة لا تخلو من العمق. في هذا المقال، نستعرض بعض أفكاره، كما وردت في نصوصه المنشورة هذا الشهر، ضمن محاولة لفهم رؤية مبسطة للاقتصاد السوري، وشروط نهوضه، ومآلاته في ظلّ ما يصفه بـ«التحرير الاقتصادي غير المكتمل».
الدولار… وهم الاستقرار كما يراه خزام
يشرح خزام أن انخفاض سعر صرف الدولار ليس دليلاً على تحسّن اقتصادي، بل غالباً ما يكون مؤقتاً ناتجاً عن تدفقات الحوالات الخارجية في الأعياد، أو بيع المدخرات، أو حتى مناورات الصرافين. يقول:
«إن انخفاض سعر صرف الدولار الذي مصدره من الحوالات الخارجية لا يعكس حقيقة الوضع الاقتصادي، لأن مفهوم الاقتصاد هو صناعة وزراعة وتجارة ومصارف وسياحة».
ويضيف أن السوق قد تشهد أحياناً ارتفاعاً في عرض الدولار، لكن من دون أي تحريك للعجلة الاقتصادية، لأن ما ينقصنا فعلاً ليس العملة الصعبة بل الإنتاج الحقيقي الذي يخلق دخلاً متجدداً وفرص عمل مستدامة.
رفع الرواتب ليس دواءً كافياً
يشير خزام إلى أن أي رفع للرواتب، ما لم يُرافق بإجراءات تحمي الإنتاج المحلي وتقلل من الاعتماد على المستوردات، لن ينعكس إيجاباً على الناس.
«مبروك زيادة الرواتب 200%، ولكنها لن تكون مختلفة عن سابقاتها من ناحية التراجع القادم بالقوة الشرائية وارتفاع الأسعار».
فالمشكلة ليست في المبلغ بحد ذاته، بل في ما يمكن شراؤه به. ومعظم ما يُستهلك في السوق إما مستورد أو مصنوع من مواد أولية مستوردة، وبالتالي فإن الطلب المتزايد سيقود إلى رفع أسعار الدولار، لا دعم الليرة.
الصناعيون لا يستطيعون التنفس
في ظل تقلبات سعر الصرف، تبدو الصناعة المحلية في حالة خنق دائم. فالتكاليف الثابتة مثل الرواتب تُدفع بالليرة، بينما المدخلات تُسعّر بالدولار، ما يخلق فجوة يصعب سدّها.
يقول خزام: «إن الأرباح الوهمية أو الخسائر الوهمية هي مصير كل من لا يقوم بدولرة حساباته المالية»، مشيراً إلى أن الحل لا يكون فقط بتثبيت السعر، بل بتثبيت المعادلة التي تُعطي كل قطاع فرصة حقيقية للاستمرار.
لا يمكن تحرير السوق دون تحرّر المنتج
ينتقد خزام بشدة من يدافعون عن فتح السوق أمام المستوردات باسم “التحرير الاقتصادي”. يذكّر بأن فتح الأبواب أمام المنافسة من دون حماية للصناعة المحلية يعني ببساطة ذوبان الاقتصاد الوطني في اقتصاد الدول المصدِّرة.
«إن المستورد يحتكر البضاعة الرخيصة ومرتفعة الجودة بالمقارنة بالمنتج الوطني»
إنّ ما يُقدَّم للمستهلك اليوم هو منافسة ظاهرها مصلحة المستهلك، لكنها في الواقع تُقوّض المنتج والمزارع والصانع معاً.
من يدافع عن الليرة السورية؟
يرى خزام أن الصناعي والمزارع هما جيشا الدفاع الحقيقيان عن الاقتصاد السوري، فهما من يواجهان الدولار بالإنتاج لا بالكلام.
«الصناعي والمزارع هم جيش الدفاع الأقوى عن الليرة والاقتصاد السوري، وسلاحهم الفعال هو زيادة الإنتاج الوطني».
لكنه لا ينسى الإشارة إلى مسؤولية الدولة: من دون قوانين حمائية، ومن دون تخفيض حقيقي في تكاليف الإنتاج، من العبث مطالبة الصناعي بالمنافسة أو بالتصدير.
القطاع العام… لا تبيعوا ما تبقى من الدولة
في موقف صريح، يقول خزام إن القطاع العام ليس عبئاً بل ثروة منهوبة، ويجب إنقاذها لا تصفيتها.
«إن تصفية مصانع القطاع العام هو بيع صريح للدولة السورية في سوق الخردة لصالح دول أجنبية لها وكلاء في سوريا»
مؤكداً أن سبب فشل هذا القطاع هو الإدارة التي فرضتها النظام السابق لا الفكرة، وأن الزمن اليوم مناسب لتجربة طرق جديدة في الإدارة، لا للهروب نحو الخصخصة المطلقة.
الاستثمار الأجنبي؟ نعم… ولكن بشروط
لا يعارض خزام دخول الاستثمارات الأجنبية، لكنه يشدد على شروط أساسية حتى لا تتحول هذه الاستثمارات إلى “مستوردات مقنّعة”. يذكر أن هذه المصانع يجب أن تستخدم مواداً أولية محلية، وتشغّل عمالاً سوريين، وتنتج بضاعة قابلة للتصدير أو تحل مكان المستوردات. حينها فقط يمكن الحديث عن فائدة اقتصادية وطنية.
ضرائب للإنتاج لا للجباية
في رؤيته للإصلاح المالي، يطالب خزام بإعادة تصميم السياسة الضريبية كأداة إنتاج، لا أداة عقاب. ويقترح أن تكون الضرائب مرتفعة على المستوردات، ومنخفضة على المواد الأولية، مع إعفاءات كاملة لبعض خطوط الإنتاج.
«إعادة التوازن لتكاليف التصنيع مقارنة بالاستيراد هو شرط أساسي لنهضة الاقتصاد»
السياسة والاقتصاد… خيط واحد
يربط خزام ما بين الاستقرار الاقتصادي والسيادة السياسية، مشيراً إلى أن غياب المشاريع الاستثمارية الكبرى بعد «سقوط الحلقة الضيقة التي كانت تحتكر السوق» سيخلق فراغاً قد يعود النظام السابق لملئه عبر واجهات جديدة.
ويقول بأنّ المساعدات الخارجية، بدلاً من أن تُصرف على الرواتب فقط، يمكن أن تتحوّل إلى مصانع وفرص عمل طويلة الأمد تخفف لاحقاً الحاجة للمساعدات.
في الختام…
ما يميّز مقاربة جورج خزام للاقتصاد السوري هو انحيازه الصريح للإنتاج المحلي، وقدرته على الربط بين التفاصيل التقنية والسياسات الكبرى، دون أن يغفل الأثر الاجتماعي والوطني. لا يقدّم خزام وصفات خيالية، بل يضع إصبعه على الجرح، ويطالب بإصلاحات حقيقية في بنية الدولة، لا مجرد معالجة شكلية للأعراض.
وبغض النظر عمّا إذا اتفقنا أو اختلفنا مع خزام، ففي بلدٍ كان يئنّ تحت وطأة العقوبات التي لم ترفع بشكل كلي بعد، والانكماش، والبطالة، تصبح الرؤى الجريئة والمباشرة ضرورة. وخزام، بما يطرحه من أفكار، يقدّم تصوراً يمكن أن يشكّل نواة حوار اقتصادي واسع، يحتاجه السوريون وهم يفتّشون عن طريق مختلف نحو التعافي.
اقرأ أيضاً: زيادة الرواتب 200%: بشرى حقيقية أم فخّ تضخمي؟
اقرأ أيضاً: الحدائق بين الهروب إليها والاصطدام بواقع الإهمال