الإبداع البشري..كيف تسرق المدارس مواهب أطفالنا!

إعداد: هلا يوسف
الإبداع البشري، كلمتان تلخصان التطور الذي وصلنا إليه، والذي سنصل إليه في المستقبل. وإذا نظرنا إلى الماضي نجد أن هناك أشخاصاً أثروا في البشرية جمعاء وأسسوا لعمليات التطور في مختلف المجالات. لكن أكثر ما يثير تساؤلي، وربما سيثير تساؤلكم أنتم أيضاً بعد أن أطرحه، هو: كيف وُلدت العبقرية والإبداع رغم أن التعليم قديماً لم يكن بالمستوى الذي نحن عليه الآن؟ لماذا نشعر اليوم في سوريا، وربما في الكثير من الأماكن الأخرى، أن أطفالنا موجهون نحو مهن محددة، ونتسابق لجعلهم كما نريد نحن لا كما يريدون هم؟ هذا ما سألخصه لكم من محاضرة خبير الإبداع كين روبنسون التي تحمل عنوان: كيف تقتل المدارس الإبداع؟
يبدأ روبنسون محاضرته بأفكار جوهرية تدور في ذهن أي شخص. فأكثر ما يشغل بالنا هو المستقبل: ماذا سيحدث فيه؟ وماذا سنفعل من أجله؟ بالرغم من أنه مجهول بالنسبة لنا. فإذا نظرنا إلى الأطفال الذين يدخلون المدرسة اليوم، سنجد أنهم بعد خمسين أو ستين سنة سيكون أغلبهم متقاعدين. أليس صحيحاً؟ لذلك، وبالنتيجة، سنجد أن التعليم هو أكثر الأمور أهمية بالنسبة للآباء في حياة أبنائهم.
الفكرة الجوهرية الثانية هي الإبداع البشري الذي حملنا إلى التطور الذي نحن فيه الآن، والذي يؤسس للمستقبل المجهول الذي تحدثنا عنه في الفكرة السابقة. لذلك نجد أن الجميع يبحث عن الإبداع في مختلف المجالات.
أما الفكرة الثالثة، التي لا يختلف عليها اثنان، فهي القدرة الاستثنائية للأطفال على التعلم والإبداع. وفكرة الإبداع قد لا تكون على مستوى جميع الأطفال، بل على مستوى طفلك فقط؛ أي قدرتك على توجيه طفلك نحو موهبته. فأساس الإبداع برأي روبنسون هو “الموهبة”.
يرى روبنسون أن الإبداع لا يقل أهمية عن التعليم، وينبغي التعامل معه بنفس درجة الاهتمام. وعلى الرغم من هذه الأهمية، إلا أننا نبدّد إبداع أطفالنا بأنفسنا. ففي قصة يرويها روبنسون على جمهوره أن طفلة كانت في حصة الرسم، وقلّما تنتبه للمعلمة، إلا أن الصدفة شاءت وكانت حاضرة الذهن في تلك الحصة. فقامت المعلمة بسؤالها عن الشيء الذي تقوم برسمه، لتجيبها الطفلة بأنها ترسم الإله. فردت المعلمة: “الإله لا أحد يعلم شكله”، فكان جواب الفتاة: “الآن ستعلمين شكله”.
وفي قصة أخرى، كان ابن روبنسون يمثل دور النبي يوسف في مسرحية المدرسة، وكان ثلاثة أطفال يدخلون عليه بالهدايا على أنها مرسلة من ملوك الدول الأخرى. وأحد هؤلاء الأطفال أخطأ في الكلام عند تقديم الهدية، فذكر اسم مدرب المسرحية بدلاً من اسم الملك الوارد في السيناريو الذي تدربوا عليه.
المغزى من القصتين السابقتين هو قدرة الأطفال على المجازفة، وعدم الخوف من ارتكاب الأخطاء. هذه الفكرة هي ما يرسّخ الإبداع، إلا أننا في المدارس نتعلم ألّا نخطئ، وإذا أخطأنا نُعاقَب: إما بعلامات منخفضة، أو بطرد، أو برسوب. وبحسب روبنسون، فإن قابليتنا لارتكاب الأخطاء خلال عملية التعلم تقل كلما كبرنا في العمر. فالمراهق يرى أن ارتكاب الأخطاء أمر عظيم، أكثر من الطفل الذي تراه منطلقاً للتعلم والاكتشاف.
وهنا لا يجمع روبنسون بين الخطأ والإبداع على أنهما نفس الشيء، إلا أن مقصده هو: إن لم تكن مستعداً للخطأ، فلن تصل إلى مرحلة الإبداع فيما تتعلمه.
وهذا ما تقوم عليه الشركات والهرم التعليمي لدينا، إذ نقوم بالإشارة إلى الخطأ، وبالتالي نحرم الناس من قدراتهم الإبداعية. فمثلاً بيكاسو يقول: إن الناس جميعاً يولدون فنانين، لكن التحدي هو المحافظة على هذا الفن خلال نمونا، وأن نخرج إلى الإبداع ومن ثم الابتكار.
الهرم التعليمي والإبداع
وبالنظر إلى النظم التعليمية في العالم، وبالأخص في نظامنا التعليمي في سوريا، سنجد أن الرياضيات تأخذ قمة الهرم التعليمي، ثم اللغات، ثم العلوم الإنسانية مثل التاريخ والفلسفة وغيرها. وفي قاع الهرم تأتي الفنون. وطبعاً هذا الترتيب أشار إليه روبنسون في محاضرته. ويشير أيضاً إلى أن التصنيفات تدخل الفنون نفسها، فنجد أن الاهتمام ينصب على الموسيقى والرسم، بينما يُهمَل الرقص والدراما. وهنا تساءل روبنسون: لماذا لا يتم الاهتمام بالرقص مثل الرياضيات، فالأطفال يقومون بتحريك أجسادهم طوال الوقت؟
وأكمل روبنسون كلامه بالقول: إذا نظرت إلى الهدف العام من التعليم، ستجد أنه إنتاج أساتذة جامعيين. وبالنسبة لنا في سوريا، سنجد أن قمة التعليم هي الطب البشري؛ أي تخريج أطباء. وبالتالي تقوم فكرة التعليم العام على القدرة الأكاديمية. على الرغم من أنه لم يكن هناك نظام تعليمي محدد في السابق، ذاك الماضي الذي نقصد به زمن شكسبير وبيكاسو. وبرأي روبنسون، نشأ نظام التعليم لتغطية احتياجات التصنيع. لذلك، إذا نظرنا إلى الهرم التعليمي نجد أنه يقوم على فكرتين:
الأولى: الأولوية للأفكار والأقسام التي تسد احتياجات التصنيع، وبالتالي فهي تتربع على عرش الهرم. ويتساءل روبنسون حول التوجيه التعليمي: كم مرة وُجِّهت لدراسة أشياء بعيدة عن ميولك وشغفك بحجة أنك لن تجد عملاً فيها مستقبلاً؟ “لا تدرس الموسيقى لأنك لن تكون موسيقياً”، “لا تدرس الرسم لأنك لن تصبح رساماً”.
الثانية: القدرات الأكاديمية، التي غيّرت نظرتنا للذكاء، لأن الجامعات صممت نظامها بحسب صورتها. ويلفت روبنسون نظرنا إلى فكرة أننا جميعاً وُجّهنا لدخول الجامعات. لذلك يعتقد العديد من الأفراد، الذين قد يكونون عباقرة ومبدعين، أنهم ليسوا كذلك فقط لأنهم لم يدخلوا الجامعة.
وبحسب منظمة اليونسكو، في الثلاثين سنة القادمة سيتخرج عدد كبير من البشر من الجامعات على مستوى العالم، أكثر بكثير ممن تخرجوا منذ بداية التاريخ. لذلك أصبحت الشهادات بلا قيمة. نحن مبرمجون على مبدأ: إذا كان لديك شهادة فسيكون لديك عمل. وغالباً ما تعود للدراسة أكثر لأن وظيفتك مع التطور أصبحت تحتاج إلى شهادة أعلى. فعند دخولك للوظيفة كانت متطلباتها شهادة “بكالوريوس”، ومع التقدم أصبحت تتطلب الماجستير، ثم الدكتوراه. لذلك يتحتم عليك مواصلة التعليم. وهذا ما أطلق عليه روبنسون “التضخم الأكاديمي”.
لذلك يجب أن نعرف أن الذكاء له ثلاث صفات:
- التنوع، لأننا نتعلم بحواسنا جميعها.
- الديناميكية، أي أنه عملية تفاعلية تنتج عنها التطور والنمو، وبالتالي فإن عملية الإبداع هي نتيجة لتفاعل وجهات نظرنا المختلفة حول موضوع معين.
- التميز، ففي كتاب لروبنسون عن الذكاء، بناه على مقابلات شخصية مع مبدعين حول كيف اكتشفوا مواهبهم.
يشير روبنسون إلى أن فكرة الكتاب نبعت من لقائه بامرأة تدعى جيليان لين، وهي مصممة رقص استعراضي معروفة على مستوى بريطانيا وخارجها. فهي من قامت بتصميم عرضي كاتس وفانتوم أوف ذا أوبرا. وعندما سألها: كيف أصبحت راقصة؟ كان جوابها أنه تم إبلاغ أهلها عندما كانت في المدرسة بأنها تعاني ضعف التحصيل الدراسي، وأنها كثيرة الحركة وغير منتبهة، وهو ما يُصنّف الآن كمرض تحت اسم “فرط الحركة وقلة الانتباه”. وبعدها تم عرضها على طبيب.
الشيء الغريب هو طريقة المعالجة التي اتبعها الطبيب. إذ لاحظ أنها كثيرة الحركة، فطلب منها أن تجلس في مكان معين لفترة من الوقت، ولاحظ أنها بقيت عشرين دقيقة واقفة على كفيها. ثم خرج هو ووالدتها من الغرفة، لكن قبل ذلك شغّل المذياع على موسيقى معينة، وكان يراقبها من نافذة صغيرة. وما هي إلا دقائق حتى بدأت الفتاة بالتحرك والقيام بحركات راقصة. عندها قال الطبيب لوالدتها: “إنها ليست مريضة، ولكنها راقصة. خذيها إلى مدرسة رقص”.
وصفت جيليان لروبنسون كم كانت سعيدة، إذ كانت هذه المدرسة تحتوي على الكثير من الأطفال الذين يحتاجون إلى الحركة حتى يفكروا. وفيما بعد تخرجت جيليان من المدرسة الملكية للباليه في بريطانيا، وأسست شركتها “جيليان لين للرقص”، وكانت وراء الكثير من الاستعراضات الغنائية العالمية. كما أنها أصبحت مليونيرة. ولو كانت سلكت طريقاً آخر، لكان تم وصف دواء لها على أساس أنها مريضة.
في ختام محاضرته، قال روبنسون: نحن بحاجة إلى إعادة النظر في البيئة البشرية، وإثراء طاقاتنا الإنسانية، وإعادة النظر في المبادئ الأساسية التي نعلّمها لأبنائنا. وتذكّر مقولة العالم “جوناس سالك”:
“لو اختفت كل الحشرات من حياة الإنسان لبقي له خمسون عاماً حتى تنتهي الأرض، بينما لو اختفى الإنسان من الأرض لازدهرت جميع أنواع الحياة عليها”.
اقرأ أيضاً: التميز والإبداع تقيم ورشة تحضيرية للبطولة الوطنية لعلوم الروبوت



