سياسة

اجتماعات الخارج لحلّ الأزمة السورية: مفتاح للحل أم تعميق للأزمة؟

الكاتب: أحمد علي

في أحد مقاهي دمشق، يتابع أحد الحاضرين نشرة الأخبار ويرى صور المسؤولين السوريين يجتمعون مع دبلوماسيين في باريس وعمّان. يتنهد بحسرة ويسأل جليسه: «هل ستُحل أزمات بلدنا على طاولات في الخارج بينما نعجز عن حلّها في الداخل؟» هذا السؤال بات يتردد على ألسنة السوريين مع كل اجتماع خارجي لحل الأزمة السورية أو أحد ملفاتها. اجتماع في باريس بشأن مستقبل الشمال الشرقي، وآخر في عمّان لبحث أوضاع الجنوب. ومع ارتفاع الآمال بأن تحمل هذه اللقاءات بارقة أمل لسوريا، يرتفع أيضاً صوت الشك والقلق: هل يمكن لوصفات الخارج أن تداوي جراح الوطن، أم أنها مرشحة لتعقيدها أكثر؟

اجتماعات الخارج لحل الأزمة السورية

لا يكاد المشهد السوري يهدأ حتى يتصدر الأخبار اجتماع خارجي جديد بعنوان حل أزمة هنا أو هناك في سوريا. اجتماعات الخارج لحل الأزمة السورية أصبحت ظاهرة ملفتة؛ فبدلاً من أن يجتمع السوريون على أرضهم، باتوا يلتقون تحت رعاية عواصم إقليمية ودولية. في باريس، رعت فرنسا مساراً تفاوضياً حساساً بين وفد حكومي سوري وممثلين عن شمال شرق سوريا (قوات سوريا الديمقراطية – قسد)، بهدف إيجاد تسوية لوضع تلك المنطقة، وكان من المفترض أن تجري نسخة ثانية منه. لكن هذا المسار تعرقل مؤخراً بعد أن أعلنت دمشق انسحابها من اجتماعات باريس احتجاجاً على مؤتمر نظّمته قسد في الحسكة، ورأت فيه الحكومة السورية “ضربة لجهود التفاوض الجارية”. وصرّح مصدر حكومي سوري بلهجة حازمة أن دمشق “لن تشارك في أي اجتماعات مقررة في باريس” ودعا إلى نقل جميع المفاوضات إلى دمشق لأنها “العنوان الشرعي والوطني للحوار بين السوريين”.

بالتوازي، شهدت عمّان اجتماعات ثلاثية ضمّت مسؤولين من الأردن وسوريا والولايات المتحدة لبحث ملف الجنوب السوري، وتحديداً محافظة السويداء التي عانت مؤخراً من مواجهات دامية. الأردن استضاف هذه اللقاءات حرصاً منه – كما يقول مسؤولوه – على دعم استقرار سوريا ووحدتها. وقد أثمرت جولة سابقة في عمان عن وقفٍ هشّ لإطلاق النار في السويداء دخل حيّز التنفيذ بــ21 تموز الماضي برعاية إقليمية ودولية. ورغم تجدد بعض الاشتباكات لاحقاً، اعتُبر تثبيت التهدئة إنجازاً إيجابياً أتى ثمرة للتنسيق بين عمّان ودمشق وواشنطن. لكن هذا الانخراط الخارجي يثير التساؤل: هل جاءت هذه التحركات الخارجية بدافع الحرص على مصلحة السوريين حقاً، أم لحسابات ومصالح تخص تلك الدول المضيفة أولاً؟

مصالح الدول المضيفة قبل مصلحة السوريين

يتفق الكثيرون على أن مصالح الدول المضيفة لأي اجتماع خارجي ستكون حاضرة بقوة على طاولة النقاش، وربما تتقدم أحياناً على مصلحة الشعب السوري. فعندما دعت باريس إلى مفاوضات بين دمشق وقسد، لم يكن ذلك بدافع الإحسان فقط؛ بل سعت فرنسا إلى استعادة دور مؤثر في المشهد السوري المعقّد. فهي تنظر إلى سوريا ضمن رؤيتها الاستراتيجية في شرق المتوسط، وترى أن لها نصيباً من الحل نظراً لارتباط ملفات سوريا بأمن لبنان ومشاريع الطاقة التي تتابعها باريس في المنطقة. وقد كانت باريس أول عاصمة أوروبية تستقبل رئيس سوريا الجديد أحمد الشرع في أيار الماضي، في إشارة واضحة لرغبتها بالتعامل المباشر مع القيادة السورية الجديدة والمساهمة في رسم ملامح المستقبل. بمعنى آخر، لفرنسا أهدافها السياسية؛ فهي تبحث عن موطئ قدم ونفوذ يعوّض تراجع الدور الأوروبي الجماعي في سوريا.

أما الأردن الذي استضاف اجتماعات عمّان، فإن هاجسه الأول أمن حدوده واستقرار جواره الشمالي. ويصف الكاتب والمحلل السياسي ماهر أبو طير أحداث الجنوب السوري (السويداء وجوارها) بأنها تشكّل تهديداً كبيراً للأردن. استمرار الفوضى هناك يعني موجات لجوء جديدة تعيق عودة السوريين من الأردن إلى ديارهم. والأسوأ أنه إذا تدهور الوضع أكثر، فقد تجد عمّان نفسها أمام حدود مباشرة مع «إسرائيل» – في حال انزلاق الجنوب السوري إلى فراغ أمني أو دويلات محلية – وهو كابوس استراتيجي للأردن. لذا تحركت عمّان دبلوماسياً لضمان استقرار الجنوب السوري، ليس حباً بأحد بل خشية انفلات أمني يضر بمصالحها الوطنية. ومن زاوية مشابهة، يلاحظ مراقبون أن انهيار الدولة السورية ليس في صالح الأردن إطلاقاً، لأنه سيجرّ الفوضى إلى جواره ويفتح الباب أمام تمدد «إسرائيلي» أو تفكك جغرافي يضر الجميع. لا عجب إذن أن يسارع الأردن لاستضافة اجتماع ثلاثي في عمّان لـ “احتواء أزمة السويداء” وضمان وحدة سوريا؛ فهو يهدف أولاً لحماية حدوده ومنع اهتزاز أمنه الإقليمي.

هذا التشابك بين الأجندات الخارجية والأزمة السورية يجعل الكثيرين يشككون في جدوى اجتماعات تعقد خارج الحدود. فالقاعدة البديهية تقول إن من يدفع ثمن استضافة المفاوضات يملك أجندته الخاصة. وقد عبّر الصحافي السوري زياد الريّس عن هذا صراحةً، منتقداً تدويل المفاوضات بين دمشق وقسد وذهابها إلى عواصم أوروبية، معتبراً ذلك «خطأ كبيراً» لأن «تلك الدول لن تتدخل إلا بما يخدم مصالحها». وهذه النظرة تعزّز شعور السوريين بأن الحل الحقيقي لأزماتهم لن يأتي على طبق من فضة من باريس أو عمّان أو غيرهما، طالما أن لكل عاصمة حساباتها وحسابات حلفائها.

اقرأ أيضاً: عشائر البدو ودروز السويداء… «مظلوميات» التاريخ والجغرافيا

ما البديل عن اجتماعات الخارج؟

إذا كانت اجتماعات الفنادق وقاعات المؤتمرات في الخارج لا تحقق المعجزات، فما البديل أمام السوريين؟ يجيب كثير من الوطنيين بأن الحل الحقيقي يبدأ بحوار سوري-سوري على أرض سوريا نفسها، بعيداً عن إملاءات العواصم. فالتجربة الماضية أثبتت – برأيهم – أن كل الصيغ التي صيغت خارج سوريا لم تصل إلى نتيجة. ويستدلون على ذلك بفشل مسارات كجنيف وأستانا ولجان دستورية عُقدت في الخارج؛ فجميعها افتقدت التمثيل الحقيقي لكل أطياف الشعب السوري وانحصر تأثيرها بين قوى دولية وإقليمية متصارعة.

حتى بعض الجهات التي شاركت في لقاءات الخارج تجد نفسها مضطرة للتأكيد أن هدفها النهائي هو حل سوري داخلي. فعندما غضبت دمشق من مؤتمر الحسكة وقررت الانسحاب من مفاوضات باريس، سارع مسؤولون في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (قسد) إلى نفي اتهام السعي إلى الانفصال أو تدويل الحل. وشدد بدران جيا كرد، نائب الرئاسة المشتركة في الإدارة الذاتية، على أن «جميع المواقف الصادرة عن مؤتمر الحسكة وطنية بامتياز»، وأن لا أحد يبحث عن حلول خارج سوريا.

وبينما دعت دمشق مراراً الوسطاء الدوليين لنقل الحوار إلى دمشق كسبيل لتحقيق تقدم، يبدو أن لدى الأطراف السورية الكردية أيضاً حرصاً على طمأنة الداخل بأن أي تفاهمات حول المستقبل يجب أن تكون سورية – سورية ولو بدأت برعاية دولية. وقد أطلقت الحكومة السورية نفسها ما قالت إنه مسار حوار وطني في الداخل خلال الأشهر الماضية، وبدأت بتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية وعقد لقاءات تشاورية في دمشق منذ شباط لكنها لم تكن بالصورة المناسبة المطلوبة، فالبعض يعتبرها شكلية أو تحت مظلة النظام، لكن مجرد الحديث عن حوار داخلي بات يلقى صدى واسعاً كبديل ضروري عن جولات الخارج العقيمة.

المقصود بـالبديل عن اجتماعات الخارج ليس الانعزال عن العالم، بل تغليب صوت السوريين أنفسهم في رسم طريق الخروج من الأزمة. يمكن للأمم المتحدة والدول الشقيقة أن تدعم وتيسر، لكن يجب أن تنتقل الاجتماعات الحاسمة إلى الأرض السورية بين أبناء البلد الواحد. ففي نهاية المطاف، لن يدفع ثمن أي حل – أو فشل – سوى السوريين أنفسهم؛ وبالتالي ينبغي أن يكون صوتهم هو الأعلى في قاعات التفاوض، وليس همس المبعوثين الأجانب.

انقسام سوري بين الشك والتأييد

لقد أفرزت هذه التطورات انقساماً في الآراء السورية حول جدوى الاجتماعات الخارجية. جانب كبير من السوريين، سواء من الموالاة أو المعارضة الداخلية، ينظر بعين الشك وربما الرفض لتدويل الحلول. هؤلاء يرون في اجتماعات الخارج لحل الأزمة السورية تكراراً لوصفات أثبتت فشلها خلال سنوات الحرب الطويلة. فعلى سبيل المثال، انتقد زياد الريس (الصحافي السوري) بشدة فكرة مفاوضة قسد والحكومة في أوروبا، مؤكداً أن الحوار خارج الوطن مآله الفشل. وبالمثل، عبّر الدكتور سمير تتان – وهو أكاديمي ومحلل سوري – عن أن الحل لا يمكن أن يمر عبر «الاصطفافات الخارجية بل عبر مصالحة وطنية حقيقية» داخل البلاد. حتى بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضة الخارجية بدأت تدعو لإعطاء زمام المبادرة للسوريين أنفسهم وعدم الارتهان للإملاءات الدولية.

في المقابل، هناك وجهة نظر أخرى بين السوريين ترى لا مشكلة في الاستعانة بالحلفاء والأصدقاء طالما أن الأزمات الداخلية عصية على الحل الذاتي. أصحاب هذا الرأي يذكّرون بأن الأزمة السورية متشابكة إقليمياً ودولياً، وبالتالي فإن عزلها عن محيطها غير ممكن. ويقولون إن اجتماعات الخارج قد توفر أحياناً منصة محايدة أو ضغطاً دولياً مطلوباً لدفع الفرقاء نحو التسوية. فعلى سبيل المثال، رحبت السلطات السورية نفسها بالبيان الثلاثي الصادر عن اجتماع باريس الذي جمع وزير خارجيتها مع نظيره الفرنسي والمبعوث الأمريكي في تموز الماضي.

واعتبرت دمشق يومها تلك الخطوة «إيجابية وبداية مشجعة» على طريق دعم مسار الانتقال السياسي في سوريا. كذلك يرى مؤيدو الاستعانة بالخارج أن اجتماع عمّان وما انبثق عنه من وقف إطلاق النار في السويداء دليل على أن تعاون الدول الصديقة يمكن أن يُحدث فرقاً ملموساً. فبدون وساطة عمّان وواشنطن، ربما كانت الاشتباكات ستستمر وتحصد مزيداً من الأرواح. ويجادل هؤلاء بأن الوساطة الدولية ليست انتقاصاً من السيادة إذا تمت بالتنسيق مع السوريين ومن أجل مصلحتهم. فهناك فرق بين وساطة الحلفاء وبين فرض الحلول قسراً؛ الأولى مطلوبة والثانية مرفوضة.

وبين هذين الفريقين يقف الكثير من السوريين العاديين حائرين بين الأمل والخوف. الأمل بأن يحمل أي اجتماع أو مؤتمر بارقة ضوء في نهاية نفق الحرب الطويل، والخوف من أن تتحول تلك اللقاءات إلى مجرد حفلات تصوير دبلوماسية وبيانات منمقة لا تغير الواقع الأليم على الأرض. وما بين الأمل والخوف، يبرز إجماع شبه مؤكد لدى الجميع: لن يُكتب النجاح لأي حل في سوريا ما لم يكن نابعاً من إرادة السوريين أنفسهم. قد تساعد اجتماعات الخارج في تقريب وجهات النظر أو ضمان مصالح الأطراف الخارجية الفاعلة، لكنها لن تغني عن اجتماع السوريين حول طاولة واحدة في دمشق أو حلب أو السويداء. فهنا فقط، على تراب الوطن وبين أهله، يمكن رسم خارطة طريق حقيقية تُنقذ البلاد من أزمتها المستفحلة.

اقرأ أيضاً: باريس على خط مفاوضات قسد ودمشق: ما سرّ الدور المفاجئ؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى