الكاتب: ربى الكلاح
أعلنت وزارة الاقتصاد والصناعة السورية عن بدء تنفيذ اتفاقية شراكة استراتيجية مع برنامج الأغذية العالمي (WFP)، في خطوة تهدف إلى التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي تلقي بظلالها على معيشة المواطنين، وتؤثر بشكل مباشر على معظم السلع الأساسية.
وتسعى هذه الاتفاقية، التي تعد بارقة أمل لملايين السوريين، إلى دعم مادة الخبز، التي تشكل “خطاً أحمر” وعصب الحياة اليومية، في ست محافظات رئيسية.
ويأتي هذا الإعلان في وقت حاسم، حيث تتأرجح البلاد بين إرث ثقيل من الفساد والهدر في قطاع الخبز خلال عهد النظام البائد، وتحديات إعادة البناء وضبط الأسواق في المرحلة الراهنة، وسط تباين واضح في واقع الرغيف بين المناطق المختلفة، حيث يعاني البعض شحاً في الإمدادات وارتفاعاً في الأسعار.
وبحسب البيان الرسمي الصادر عن الوزارة، تستهدف الاتفاقية دعم 64 مخبزاً موزعة على محافظات درعا، اللاذقية، طرطوس، حلب، حماة، وحمص، من خلال تزويدها بنحو 45 ألف طن من الدقيق حتى نهاية عام 2025.
ومن شأن هذه الكمية أن تساهم في تأمين الخبز المدعوم لما يقارب مليوني مواطن، بسعر رمزي يغطي تكاليف التشغيل فقط، في محاولة جادة لضمان الأمن الغذائي للأسر الأكثر هشاشة.
واقع الأفران في سوريا
لا يمكن فهم أهمية هذه الاتفاقية دون العودة إلى واقع الخبز في سوريا خلال العقود الماضية، حيث كانت البلاد تعتمد بالكامل على إنتاجها المحلي من القمح، بل وتصدر أجود أنواعه للأسواق العالمية، لكن سنوات الحرب وتداعيات الفساد الممنهج في عهد نظام بشار الأسد حولت البلاد إلى مستورد رئيسي للقمح، مما جعل رغيف الخبز يتحول من حق أساسي إلى أزمة يومية يعانيها المواطنون.
وخلال فترة النظام السابق، كان الحصول على الخبز تحدياً يومياً، إذ ارتبط توزيعه بمنظومة “البطاقة الذكية” التي كانت في ظاهرها آلية لتنظيم التوزيع والاستهلاك، لكنها في باطنها كرست سياسات التقنين وزيادة المعاناة، حيث تم تقليص الحصص الموزعة وأصبحت الأسرة المكونة من ثلاثة أفراد تحصل على ربطة خبز واحدة يومياً، في حين تم تقليص حصة الفرد إلى ثلاث ربطات أسبوعياً، الأمر الذي أدى لخلق مشهد مألوفٍ يومياً، “طوابير طويلة تمتد لساعات أمام الأفران”، وسط تناقص مستمر في الكمية الممنوحة للمواطنين.
ولم تقتصر المعاناة على الانتظار، بل تفاقمت بفعل شبكات فساد واسعة بين أصحاب الأفران والمعتمدين، الذين كانوا يستحوذون على حصص كبيرة من الخبز المدعوم لبيعها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة.
ويقول أحد المواطنين خلال انتظاره أمام أحد الأفران: “كنت أقف لساعات طويلة للحصول على ربطة خبز بالكاد تكفينا ليوم واحد، ما كان يضطرنا إلى شرائها من السوق بسعر مرتفع، اليوم، أصبح الحصول على الخبز أسهل، لكنني ما زلت أقف وقتاً كنت أظنه سيقل”.
ومع سقوط النظام في كانون الأول 2024، شهد المشهد تحولاً جذرياً، وفتحت حكومة تسيير الأعمال مخازن الطحين وسمحت بالإنتاج الحر، وحددت سعر الربطة (12 رغيفاً) بـ 4000 ليرة سورية دون الحاجة لأي بطاقة، الأمر الذي أدى إلى اختفاء “الخط العسكري” من على أبواب الأفران، ولعبت المجموعات الأهلية دوراً في تنظيم توزيع الخبز وضمان وصوله إلى الجميع.
لكن التحديات لم تختفِ، بل تغير شكلها، إذ لا يزال بعض المواطنين يعانون من رداءة جودة الخبز في بعض المناطق، إلى جانب استمرار التلاعب بوزن الربطة وعودة بعض الممارسات الاحتكارية التي كان يتبعها المعتمدون سابقاً.
أقرأ أيضاً: مشروع المنطقة الحرة في إدلب.. طموح اقتصادي جديد بعد عقود من التهميش
دعم متعدد الأوجه وخطة نحو رفع الدعم
لا تقتصر الجهود المبذولة على الاتفاقية مع برنامج الأغذية العالمي فحسب، إذ أعلن مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية عن مشروع جديد بقيمة 5 ملايين دولار، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، لإعادة تأهيل المخابز المتضررة، في خطوة إضافية لدعم الأمن الغذائي في البلاد.
وعلى الصعيد الداخلي، تعمل “المؤسسة السورية للمخابز” على تنفيذ خطة طموحة لعام 2025، ترتكز على رفع جاهزية المخابز، وتحسين جودة المنتج، والتوسع في عدد الأفران لمعالجة النقص في مناطق عدة.
وكشف مديرها العام، محمد الصيادي، أن الخطة تتضمن إضافة 175 مخبزاً جديداً، تتصدرها حلب (45 مخبزاً)، وإدلب (33)، واللاذقية (28)، بهدف تعزيز الإنتاج وضمان توافر الخبز بشكل أكثر استقراراً.
وهذه الجهود تأتي في ظل واقع اقتصادي معقد، حيث أوضح الصيادي أن تكلفة إنتاج ربطة الخبز الحقيقية تبلغ نحو 8500 ليرة، في حين تباع للمواطن بسعر مدعوم يبلغ 4000 ليرة، مما يعني أن الحكومة تتحمل أكثر من نصف التكلفة لضمان استمرار الدعم.
لكن هذا الدعم لن يستمر طويلاً، فقد أعلن وزير التجارة الداخلية، ماهر خليل الحسن، أن الدعم الحكومي عن الخبز سيتم إلغاؤه بالكامل في غضون شهر إلى شهرين، وأن الحكومة ستواصل تحمل الفارق مؤقتاً حتى يتم تحرير السوق بالكامل، مبشراً السوريين بالوصول إلى الاكتفاء الذاتي من القمح بحلول موسم 2026.
انقسامات سياسية واقتصادية
لا يعكس مشهد الخبز في سوريا الأزمة الغذائية فحسب، بل يجسد الانقسامات السياسية والجغرافية التي فرضت واقعاً متبايناً في مختلف المناطق، ولا تزال آثارها باقية لحد اليوم.
ففي محافظة إدلب، انهار النظام الحكومي لتوزيع الخبز بعد استهداف الأفران بشكل ممنهج منذ عام 2011 وتوقف عمل المؤسسة العامة للحبوب في 2018، مما ترك فراغاً ملحوظاً في الإمدادات.
وفي ظل غياب مؤسسات الدولة، تولت منظمات المجتمع المدني والجهات الإغاثية، مثل “حكومة الإنقاذ”، مهمة توزيع الخبز، ليصبح المورد الأساسي للأهالي هناك الخبز المدعوم الذي توزعه هذه الجهات، وغالباً ما يتم التعامل بالليرة التركية، لكن هذا النظام هش ويعتمد بشكل رئيسي على التمويل الخارجي، مما يجعله عرضة للتقلبات الاقتصادية العالمية.
ومؤخراً، أثار قرار خفض وزن ربطة الخبز مع إبقاء سعرها (10 ليرات تركية) استياءً واسعاً بين المواطنين، وبررت السلطات المحلية هذا الإجراء بانهيار سعر صرف الليرة التركية وارتفاع أسعار الطحين عالمياً، الأمر الذي زاد من حالة عدم الاستقرار الغذائي في المنطقة.
أما في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شمال شرق البلاد، فإن الوضع يمثل مفارقة كبيرة، إذ تمتلك هذه المناطق أغنى الموارد الزراعية والنفطية في البلاد، ومع ذلك يعاني سكانها من زيادات متتالية في أسعار الخبز المدعوم.
ففي نوفمبر 2024 قررت “الإدارة الذاتية” رفع سعر ربطة الخبز المدعوم من 1500 إلى 2000 ليرة سورية، بعد زيادة سابقة في أيار من نفس العام، الأمر الذي أثار موجة غضب عارمة بين السكان.
ويرى محللون، مثل القيادي الكردي فادي مرعي، أن مثل هذه القرارات تفاقم معاناة المواطنين، وتدفع نحو موجات جديدة من الهجرة، مع طرح تساؤلات جوهرية حول إدارة الموارد في المناطق الأغنى زراعياً في سوريا.
ورغم التفاوت الكبير في إدارة الخبز بين مختلف المناطق السورية، يبقى المشترك بين جميع هذه الأزمات غياب الاستقرار والضغوط الاقتصادية المتزايدة، في ظل بحث مستمر عن حلول تضمن وصول هذه المادة الأساسية إلى الجميع.
اقرأ أيضاً: القمح السوري.. ما حال سنابل الخير على ضوء القرارات الجديدة؟!
رؤية الخبراء: بين التفاؤل الحذر والواقع المعقد
يرى الخبراء أن اتفاقية الشراكة مع برنامج الأغذية العالمي خطوة إيجابية ومهمة باتجاه تعزيز الأمن الغذائي، لكنها لا تمثل حلاً جذرياً، ويقول نائب وزير الاقتصاد، ماهر خليل الحسن، إن الاتفاقية، التي تقدر قيمتها بنحو 16 مليون دولار، ستوفر ربطة الخبز بسعر 2400 ليرة للمناطق الأكثر حاجة، مؤكداً أن “كل عائلة في سوريا تستحق أن تعيش بكرامة”.
من جانبها، أكدت المديرة الإقليمية للبرنامج، ماريان وارد، أن هذا الدعم يأتي استجابةً لطلب الحكومة السورية، وأن البرنامج يقف معها “لما لمسه من توافق بينها وبين مواطنيها”.
لكن على الجانب الآخر، فإن خطط الحكومة لتحرير سعر الخبز بالكامل تثير قلقاً كبيراً، ففي بلد يقدر فيه متوسط استهلاك الفرد من الخبز بـ 14.4 كيلوغراماً شهرياً (وفق إحصائيات 2010)، فإن أي تغيير في سعر هذه المادة سيكون له تأثير مباشر وهائل على القوة الشرائية للمواطن الذي يعاني أصلاً من تدهور دخله.
ومن المؤشرات اللافتة، أن الإجراءات الأولية لمكافحة الفساد بعد سقوط النظام أدت إلى انخفاض استهلاك الطحين بنسبة 20%، مما يدل على حجم الهدر الذي كان قائماً خلال السنوات الماضية.
اليوم، تقف سوريا على مفترق طرق حاسم فيما يتعلق بأمنها الغذائي، بين الجهود الدولية الداعمة، والخطط الحكومية الطموحة لإعادة هيكلة القطاع ورفع الدعم، والواقع المتباين والمؤلم في مناطق إدلب والشمال الشرقي، يبقى رغيف الخبز هو المقياس الحقيقي لنجاح أي سياسة اقتصادية، حيث يتردد السؤال الأهم:
هل ستتمكن هذه الإجراءات مجتمعة من إعادة الرغيف كحق أساسي ومستدام لجميع السوريين، أم أنها ستبقى مجرد محاولات لتسكين ألم أزمة أعمق، تاركة المواطن في مواجهة مباشرة مع تقلبات السوق العالمية وقسوة الواقع الاقتصادي المحلي؟