ماذا تنتج سوريا من النفط يومياً الآن؟

الكاتب: أحمد علي
ورقةٌ رسمية تسلّلت إلى الضوء، مختومة بشعار وزارة النفط وموقّعة بيد المدير العام. ليست مقال رأي ولا تسريباً إنشائياً؛ إنها “دفتر اليوميات” الذي يكتبه القطاع لنفسه: كم برميلاً أخرجت سوريا، كم متراً مكعباً ضخت، وإلى من ذهبت تلك الجزيئات المتعبة من النفط والغاز. حين نقرأ الأرقام على مهلٍ، ينهض سؤال لا يمكن الإفلات منه: ماذا تنتج سوريا من النفط يومياً الآن، وكم خسر هذا القطاع منذ 2011؟
إنتاج النفط في سوريا: قراءة دقيقة في الورقة المسربة
التقرير المعنون «تقرير إنتاج النفط والغاز لليوم» يبدأ بجدول واضح: إجمالي إنتاج النفط والمكثفات يبلغ 7,342 برميلاً يومياً، مع تراكم شهري قيد التاريخ الظاهر في الصورة قدره 119,363 برميلاً. وضمن هذا الإجمالي تظهر تفاصيل ذات دلالة:
- إنتاج الشركة السورية للنفط من الخام لا يتجاوز 952 برميلاً يومياً، موزعاً على شركتين ممثلتين في الجدول (500 برميل للأولى و452 للثانية).
- المكثفات القادمة من نشاط الغاز حاضرة بعدد لافت، ويظهر في العمود المخصص للسورية للغاز رقم 1,239 برميلاً يومياً.
- تفصيلٌ إضافي يخص منشآت/حقول الغاز التي تنتج مكثفات: معمل إيبلا 2,850 برميلاً يومياً، ومنظومة الفرات 2,002 برميلاً، إضافةً إلى 175 برميلاً من دير الزور و124 برميلاً من منشأة ميدانية أخرى. وهذه الأرقام توضح أن معظم “السوائل” التي تُحصى ضمن الناتج الإجمالي ليست نفطاً خاماً تقليدياً، بل مكثفات ناتجة عن معالجة الغاز.
التقرير يدوّن أيضاً حركة النقل: 4,114 برميلاً يومياً تم توريدها من شركات المؤسسة إلى الخزانات (مسمّاة في الورقة المسربة بخزانات/محطات الضخ مثل T4)، فيما كان التوريد بالصهاريج “صفر” في ذلك اليوم.
على جبهة الغاز، تنقلب اللوحة إلى أرقام بالملايين من الأمتار المكعبة يومياً (م.م³/ي):
- الغاز الخام المنتج 7.681 م.م³/ي.
- الغاز النظيف المنتج 9.806 م.م³/ي، وهو رقم أعلى من الغاز الخام لأن الورقة تسجّل أيضاً الغاز المسال المستورد بكمية 2.423 م.م³/ي.
- من هذا الغاز النظيف، 9.596 م.م³/ي مُصدَّر إلى الشبكة العامة، فيما 0.210 م.م³/ي استهلاك داخلي ضمن المعامل.
ولأن الأهم من الإنتاج هو من يستهلكه، يرسم التقرير خريطة توزيع دقيقة:
- قطاع الكهرباء يلتهم 7.927 م.م³/ي، منها 7.614 عبر الشبكة و0.313 م.م³/ي تغذية مباشرة لمحطة توليد السويدية.
- قطاع النفط يستهلك 1.092 م.م³/ي (منها 0.885 لمنشآت السورية للنفط والهندسة و0.207 من داخل الشبكة).
- وزارة الصناعة: 0.000 في يوم التقرير.
ويسجّل التوازن داخل الشبكة بنداً باسم «الداخل للشبكة (المستهلك)» قدره 0.577 م.م³/ي، ما يُظهر ضآلة المساحة المتبقية خارج الكهرباء والنفط.
أما أسطوانة المطبخ اليومية، ففي خانة «الغاز المنزلي» تسجّل الورقة إنتاج 114 طناً، بينما سلّمَت الشركة 134 طناً إلى “محروقات”، ما يعني السحب من مخزون أو تغطية فجوة بكمية إضافية يومها. ومن غير الواضح مصدر سداد العجز في التقرير المسرّب من موقع زمان الوصل. فيما تظهر ملاحظات إضافية في التقرير أن الغاز المنزلي المنتج من «جنوب الوسطى» 43 طن، ومن معمل غاز إيبلا 48 طن، فيما ساهمت شركة حيان بـ 23 طن.
وفي الهامش أيضاً رقم لافت يخص النفط الخام المخزَّن شمالاً: «كمية النفط الثقيل المنتج في مديرية حقول الجبسة: 9,271 برميلاً».
من 2011 إلى اليوم: خسارةٌ تُقاس بالبرميل وبالمليار
قبل الحرب، كان إنتاج النفط في سوريا يدور حول 380 ألف برميل يومياً (تذبذبٌ طبيعي حول هذا الرقم في مطلع 2011). إذا وضعنا هذا الخط الأساسي قبالة رقم اليوم 7,342 برميلاً، فسنصل إلى انكماش يناهز 98%. الفاقد اليومي يقارب 372,658 برميلاً. وعلى مدى عام، يتراكم ذلك إلى حوالي 136 مليون برميل.
ولتقدير الخسارة المالية التقريبية، سنفترض سعراً عند 65 دولاراً للبرميل (وهو السعر العالمي لبرميل النفط لحظة الكتابة/ نفط برنت): الحديث إذن عن أكثر من 8.8 مليارات دولار سنوياً من إيراداتٍ نفطية كانت تشكّل شرياناً أساسياً للموازنة وميزان المدفوعات، فضلاً عن كلفة بديلة أعلى لاستيراد المشتقات.
على جبهة الغاز، أنتجت سوريا قبل 2011 ما بين 25 و30 م.م³/ي. مقارنةً بـ 7.681 م.م³/ي اليوم، نحن أمام تراجعٍ إلى أقل من ثلث طاقة ما قبل الحرب. لهذا تظهر 2.423 م.م³/ي من الغاز المستورد المُعاد تغويزه (أي تحويله من الحالة السائلة/غاز مسال إلى الحالة الغازية) كعكازٍ يومي يساند الشبكة، خصوصاً أن قطاع الكهرباء وحده يبتلع أكثر من أربعة أخماس الغاز النظيف المتاح.
ما الذي تقوله الأرقام عن الجغرافيا والسياسة والاقتصاد؟
الورقة المسربة لا تكتب السياسة صراحة، لكنها تبوح بها بالأرقام. إنتاج النفط في سوريا من الخام (952 برميلاً يومياً) رمزياً جداً، ويبدو أن المكثفات القادمة من معامل الغاز (إيبلا والفرات على وجه الخصوص) صارت المكوّن الأكبر ضمن «السوائل»، وهو تحوّل هيكلي في سلة الإمداد السائل بالمقارنة مع 2011، ولهذا تداعيات واعتبارات عدة، ويفرض تبعات على التكرير ولسعر واللوجستيات وسياسة الطاقة ككل.
توزيع الغاز يفضح حقيقة أخرى: الطاقة الكهربائية هي الأولوية المطلقة. حين تُمنح الكهرباء 7.927 م.م³/ي من أصل 9.596 م.م³/ي موزّعة على الشبكة، فهذا يعني أن الصناعة تكاد تكون خارج اللعبة في ذلك اليوم، وأن النفط نفسه يعوِّل على الغاز لتشغيل منشآته. وهنا نفهم لماذا يُخصَّص «للهندسة والسورية» 0.885 م.م³/ي خارج الشبكة: تشغيل الحقول ومحطات التجميع يحتاج إلى طاقة ثابتة، ولو على حساب قطاعاتٍ أخرى.
في الخلفية الاقتصادية لهذا المشهد، تتراكم ثلاثة أثقال:
- ضياع الإنتاج المصدري الذي كان يوفر العملة الصعبة.
- فاتورة الاستيراد الإضافية للغاز والمازوت والبنزين لتعويض ما لا تنتجه الحقول والمصافي.
- تكلفة الفرصة الضائعة على الصناعة والنقل والزراعة بسبب أولوية توفير الغاز للكهرباء ثم للمنشآت النفطية.
لماذا وصلنا إلى هنا؟
لا تحتاج الورقة أن تقول “الحرب” كي نفهمها. الأسباب متشابكة:
- خروج معظم حقول المنطقة الشرقية (الحسكة ودير الزور) عن المنظومة المركزية لسنوات طويلة، وتعقّد الوصول إلى الخام هناك.
- العقوبات التي حدّت من القدرة على استجرار قطع الغيار والخدمات المتخصصة، ومنعت استقدام استثمارات تقنية.
- تضرر البنية التحتية: أنابيب، محطات تجميع، آبار بحاجة إلى إعادة تأهيل وحفر وصيانة متقدمة.
- الشيخوخة الجيولوجية لحقول كثيرة كانت أصلاً في طور الانحدار قبل 2011.
- نزيف الكفاءات؛ فالهجرة الطويلة لخبرات الحفر والإنتاج والتشغيل تُبطئ أي خطة تعافٍ.
إلى أين يمكن أن تتجه البوصلة؟
بين الأرقام المتقشفة اليوم وإرث 2011، يقف سؤال التعافي على مجموعة مفاتيح عملية:
- استعادة القدرة التشغيلية الآمنة للآبار المتبقية، عبر تقنيات Workover وإصلاحات المضخات الغاطسة، واستعادة ضغط المكامن حيث يلزم بحقن الماء/الغاز.
- تقليل فاقد الغاز المصاحب بحرقٍ أقل وتجميعٍ أفضل، فكل مليون متر مكعب إضافي يمكن أن يذهب للكهرباء أو للصناعة ويخفف الاستيراد.
- رفع كفاءة معامل المعالجة لتقليل الاستهلاك الداخلي (0.210 م.م³/ي في الورقة عينةٌ يمكن تحسينها) وتخفيض كُلف التشغيل.
- تنويع مصادر الإمداد عبر عقودٍ مرنة للغاز المسال، وربطها بإدارة الطلب في الكهرباء صعوداً وهبوطاً.
- حوكمة شفافة للأرقام، فالمجتمع الذي يرى أرقاماً يومية بهذا الوضوح يفهم التحدي فعلاً.
خلاصة
ما تقوله الورقة بصوتٍ خفيض واضح: إنتاج النفط في سوريا هزيل جداً بالمقارنة مع خطوط 2011، والغاز هو رئة الكهرباء والحياة اليومية، لكنه رئة قصيرة النفس بلا دعمٍ مستورد. والخسارة ليست أدبية؛ تُقاس ببرميلٍ يومي مفقود وبملياراتٍ سنوية تبخّرت من الموازنة.
لكن مع ذلك، تترك الأرقام نافذةً صغيرة: فما زال ثمة مكثفات تُنتج، وما زال الغاز – ولو معززاً باستيراد – يدير مفاتيح الضوء. ولا شكّ التعافي يحتاج وقتاً وإرادة واستثمارات وهدوءاً في الجغرافيا، لكنه يبدأ من الاعتراف الصريح والمكاشفة الحكومية بواقع الحال، فكان من الأفضل كثيراً أن تكون اليوم بين أيدينا معطيات حكومية صادرة رسمياً لكي نحلل ونفهم ونشرح عوضاً عن الاستناد إلى أوراق مسربة…
اقرا أيضاً: هل حقّقت سوريا الفائدة المرجوّة من الغاز الأذربيجاني؟!




