الكاتب: أحمد علي
في مشهد لم تعتده سوريا منذ عقود، عاد اسم «البنك الدولي» ليظهر على جدول أخبار البلاد، ولكن هذه المرة ليس عبر تقارير تقييمية أو تحذيرية، بل عبر منحة مباشرة، يُفترض أن تعيد بعضاً من التيار المفقود إلى شبكة كهرباء شبه المنهارة. في الرابع والعشرين من حزيران، أعلن مجلس المدراء التنفيذيين في البنك الدولي الموافقة على منحة بقيمة 146 مليون دولار أميركي، خصصت بالكامل لدعم مشروع طارئ يهدف إلى إنعاش قطاع الكهرباء في سوريا.
منحة البنك الدولي لسوريا
لم تكن أزمة الكهرباء في سوريا وليدة يوم أو حتى عام. فمنذ اندلاع النزاع في البلاد، تعرضت البنية التحتية للكهرباء لدمار واسع النطاق. دُمرت محطات وتحوّلت خطوط نقل إلى خرائط على الورق. وأصبحت الكهرباء، في كثير من المناطق، ضيفاً نادراً لا يُرى إلا لساعات معدودة، وفي أحسن الأحوال، لأربع ساعات يومياً. هذا التدهور لم يكن مجرد عطب تقني، بل أسهم بشكل مباشر في إضعاف قطاعات أساسية مثل المياه والرعاية الصحية والصناعات الغذائية، كما أضرّ بالأنشطة الاقتصادية وساهم في هجرة الكفاءات.
مشروع طارئ.. وأهداف متعددة

يحمل المشروع الطارئ للكهرباء في سوريا (SEEP) طابعاً مزدوجاً: إنقاذي وتنموي. فهو لا يستهدف فقط إصلاح الأعطال، بل يسعى أيضاً لوضع الأسس لمستقبل أكثر استقراراً في قطاع الطاقة. ويشمل المشروع إعادة تأهيل خطوط نقل عالية التوتر، بما في ذلك خطان بقدرة 400 ك.ف تعرّضا لأضرار جسيمة خلال سنوات الحرب، وهما خطان محوريان لإعادة ربط الشبكة السورية بشبكتي الأردن وتركيا، ما يعيد الأمل بإحياء الربط الإقليمي.
كما يتضمن المشروع إصلاح محطات فرعية رئيسية في مناطق منكوبة ومكتظة بالعائدين والنازحين، مع التركيز على توفير قطع الغيار ومعدات الصيانة التي لم تدخل البلاد منذ سنوات. وتُعتبر هذه الخطوة بمثابة محاولة لبناء جسور كهربائية نحو التعافي الاقتصادي والاجتماعي.
دعم فني.. وتأسيس لمستقبل استراتيجي
ولا تقتصر أهداف المنحة على الإصلاحات الميكانيكية، بل تمتد لتشمل تقديم الدعم الفني للمؤسسات السورية المعنية بالكهرباء. ومن المنتظر أن يساعد المشروع في صياغة إستراتيجيات وطنية، وتحديث السياسات والأنظمة التنظيمية، وبناء قدرات بشرية محلية قادرة على التعامل مع التحديات الجديدة. وستتم الاستعانة بشركات استشارية دولية للقيام بدور «المهندس المالك» لضمان التزام التنفيذ بمعايير البنك الدولي البيئية والمالية.
وفي حديثه حول المنحة، قال المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي، جان كريستوف كاريه، إن المشروع يمثل أولى خطوات البنك في دعم مسيرة التعافي بسوريا. واعتبر أن إعادة تأهيل الكهرباء أمر جوهري ليس فقط لتحسين الواقع المعيشي، بل أيضاً لتسهيل عودة اللاجئين والنازحين داخلياً، وضمان استئناف الخدمات الأساسية.
من جهته، وصف وزير المالية السوري، الدكتور محمد يسر برنية، هذه المنحة بأنها نقطة تحوّل في علاقة سوريا مع المؤسسات الدولية، مؤكداً أن المنحة لا تندرج ضمن القروض، بل تُعد تمويلاً مجانياً مباشراً. وأعرب برنية عن أمله في أن تكون هذه الخطوة بداية لانفتاح أكبر نحو برامج دعم أخرى مستقبلاً.
توزيع المنح في المنطقة: لماذا كانت حصة سوريا الأقل؟
في سياق أوسع، أوضح الصحفي الاقتصادي حازم عوض، في مداخلة تلفزيونية من دمشق، أن المنحة السورية تأتي ضمن حزمة إقليمية شملت أيضاً العراق ولبنان، بقيمة إجمالية بلغت 1.33 مليار دولار. غير أن حصة سوريا، مقارنة بلبنان (250 مليون دولار) والعراق (أكثر من 950 مليون دولار)، كانت الأدنى.
ورأى عوض أن السبب في ذلك يعود إلى تعقيدات الملف السوري سياسياً واقتصادياً، مشيراً إلى أن الواقع الكهربائي في البلاد يحتاج إلى مليارات الدولارات لا عشرات الملايين، نظراً إلى حجم الدمار واتساع رقعة الحاجة بعد 14 عاماً من الحرب والتمدد العمراني والسكاني.
مشاريع مستقبلية تتطلب شراكات إقليمية
إلى جانب المنحة، تجري سوريا محادثات ثنائية مع دول الجوار لزيادة مصادر الطاقة المتاحة. وأشار وزير الطاقة السوري محمد البشير إلى مباحثات مع وزير الطاقة الأردني وصندوق التنمية الخليجي، وكذلك إلى اتفاق قطري سابق لتوفير الغاز عبر الأراضي الأردنية.
كما أكد البشير وجود تفاهم مع تركيا بشأن تزويد سوريا بستة ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي، بهدف تحسين قدرة البلاد على توليد الكهرباء. إلا أن آثار هذه المشاريع لم تنعكس بعد على أرض الواقع، ما يثير تساؤلات حول سرعة التنفيذ، والجدول الزمني، ومدى التزام الأطراف المعنية.
هل تكفي 146 مليون دولار؟
لا شك أن المنحة تمثل خطوة إيجابية في ظل الانهيار الشامل الذي يواجهه قطاع الكهرباء في سوريا. لكنها، في الوقت ذاته، تبدو نقطة على سطر طويل يحتاج إلى إعادة كتابة كاملة. فتقديرات غير رسمية تشير إلى أن إعادة تأهيل قطاع الكهرباء السوري قد تتطلب استثمارات تفوق 7 مليارات دولار، تشمل التوليد والنقل والتوزيع وربط الشبكة بالمنظومات الإقليمية.
بالتالي، فإن 146 مليون دولار، رغم رمزيتها وأهميتها السياسية، لن تكون كافية سوى لترميم بعض أجزاء الشبكة في المناطق الأكثر تضرراً، أو تمهيد الطريق لمشاريع أكبر في المستقبل، شرط توافر الإرادة الدولية والمناخ السياسي المناسب.
تنفيذ محلي ومراقبة دولية
سيتولى تنفيذ المشروع «المؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء»، على أن يُشرف على التنفيذ مهندس دولي مستقل، وسيقوم البنك الدولي بتعيين جهة ثالثة لمتابعة كافة التفاصيل التقنية والمالية، بهدف تعزيز الشفافية والرقابة وضمان الاستخدام الأمثل للأموال.
ويتضمن المشروع آليات واضحة لتقييم الأداء، والتعامل مع الآثار البيئية والاجتماعية المحتملة، بما يتوافق مع سياسات البنك الدولي، في محاولة لضمان استدامة الأثر وعدم تحوّل المشروع إلى مجرد إنعاش مؤقت.
ما المطلوب لاحقاً؟
تعكس المنحة رغبة البنك الدولي في إعادة فتح خطوط التواصل مع سوريا بعد قطيعة دامت قرابة أربعة عقود، وهي خطوة تحمل في طيّاتها أبعاداً فنية وسياسية واقتصادية. لكن التعافي الحقيقي لن يتم إلا عبر حزمة أوسع من الدعم تشمل توليد الطاقة، تحديث البنية التحتية، وتعزيز الربط الإقليمي. وهنا تبرز الحاجة إلى إطلاق مؤتمرات مانحين مخصصة لسوريا، تستند إلى خطة وطنية واضحة ذات أولويات عاجلة، مع ضمانات للشفافية في التنفيذ.
اقرأ أيضاً: 400 كيلو فولت.. هل تنجح الحلول الإسعافية في إنقاذ شبكة الكهرباء السورية؟