سياسة

أزمة المياه في سوريا: هل من مخرج من شبح العطش؟

الكاتب: أحمد علي

وسط صيفٍ سوريٍّ لاهب، يشقُّ نهر بردى طريقه بصعوبة عبر دمشق بعدما كاد يجف تماماً لأول مرة في التاريخ المناخي الموثَّق. وعلى مدار أيام متواصلة، تنتظر العائلات بصبر نافد قدوم الماء إلى صنابير منازلها، حيث تتأرجح البلاد على حافة عطش يهدد البشر والزّرع والضرع معاً. نعم تعيش سوريا اليوم لحظة مكثفة من الأزمة، لكنها ليست جديدة، ففي السنوات الأخيرة، تفاقمت أزمة المياه لتصبح أخطر موجة عطش في التاريخ الحديث للبلاد. ولم تعد المشكلة مقتصرة على مواسم جفاف عابرة أو ظروف مناخية قاسية فحسب، بل باتت مرآةً لعقود من سوء الإدارة والبنى التحتية المتهالكة، وظلال حربٍ طويلة أكلت الأخضر واليابس. فكيف وصلت سوريا إلى هذه الحال العطشى، وهل من مخرج من نفق الأزمة المظلم؟ في ثنايا هذا التقرير نسرد حكاية المياه السورية بين شح الموارد وهدرها، ونبحث في المخارج الممكنة أمام الدولة السورية اليوم لتجاوز الكارثة، ضمن مقاربة تجمع بين ضرورات التقنية وحتميات السياسة والاقتصاد.

أزمة المياه في سوريا… واقع مرير وأسباب متشابكة

تبدو ملامح أزمة المياه في سوريا واضحة في كل جانب من جوانب الحياة. فمناخياً، تقع البلاد ضمن أكثر المناطق جفافاً وإجهاداً مائياً في العالم، وقد ازدادت الأمور سوءاً مع تفاقم التغيرات المناخية. انخفض معدّل الهطول المطري إلى أقل من 45% من متوسطه السنوي المعتاد، وتراجعت تغذية المياه الجوفية بحوالي 60% مقارنة بالعقد الماضي. نهر الفرات – شريان الحياة في الشمال الشرقي – فقد نحو ثُلث تدفّقه الطبيعي نتيجة الجفاف والضغوط الإقليمية على منابع النهر، في حين جفّت مياه بردى تماماً لأول مرة، وهو النهر الذي طالما اعتُبر «رئة دمشق المائية». ومع تجاوز حصة الفرد السنوية للمياه عتبة الخطر إلى أقل من 500 متر مكعب في منتصف عام 2025، أضحت سوريا رسمياً تحت خط الفقر المائي الحاد، حيث يلاحق شبح العطش الجميع من المدينة إلى الريف.

إلى جانب عامل المناخ القاسي، تكشّفت جوانب خلل عميقة في إدارة الموارد المائية خلال العقود الماضية. لعقودٍ طويلة، اتسمت سياسات المياه بسوء التخطيط والفساد في استثمار الموارد، ما أدى إلى استنزاف شديد للمخزون المائي. سمح تغوّل بعض المتنفذين بحفر الآبار العشوائية واستغلال المياه الجوفية بلا ضوابط، فجفّت بعض الينابيع والأنهار المحلية التي كانت تغذي القرى والحقول. انهار الوضع المائي في أحواض مهمة مثل نهر الخابور في الجزيرة السورية ونهر العاصي في المنطقة الوسطى، وحتى أنهار غوطة دمشق التي كانت يوماً جنات خضراء حول العاصمة. وقد أدت حرب السنوات الأخيرة (2011-2024) إلى تفاقم هذا التدهور؛ فالقصف والتفجيرات والعمليات العسكرية دمّرت أكثر من نصف منشآت ومرافق مياه الشرب والصرف الصحي بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي بعض المناطق، تسببت ممارسات الحرب ذاتها في تلويث المياه، مثل التسربات النفطية البدائية في الشرق، أو تخريب محطات الضخ الكبرى. كل ذلك جعل جزءاً من مياه سوريا خارج نطاق الاستخدام الآمن للإنسان أو حتى للزراعة إلا بعد معالجة وإعادة تأهيل.

وفوق هذه التحديات الداخلية، برزت تعقيدات جيوسياسية أسهمت في تعميق أزمة المياه. إن تحكّم تركيا بمصادر نهري دجلة والفرات عبر مشاريع سدود عملاقة قلّص حصة سوريا من هذين النهرين، وفاقم معاناة المناطق الشمالية والعجز في توليد الكهرباء المائية. فورقة المياه أضحت أداة ضغط إقليمية؛ على سبيل المثال، شهدت محافظة الحسكة في الشمال الشرقي أزمة حادّة جرّاء توقف محطة مياه علوك مراراً، وهذه المحطة الحيوية تضخ مياه الشرب لنحو 500 ألف نسمة في مدينة الحسكة وريفها، لكن خلافات القوى المسيطرة أدت إلى تعطيلها مراراً، تاركةً مئات الآلاف من المدنيين عطشى يعتمدون على صهاريج متنقلة أو آبار سطحية مالحة.

هكذا إذاً تضافرت أسباب مناخية (جفاف وارتفاع حرارة) مع عوامل بشرية (سوء إدارة وحرب وفساد) لتخلق واقعاً مائياً مريراً في سوريا. والنتيجة المباشرة لهذا الواقع هي عجز الدولة عن توفير الحد الأدنى من المياه النظيفة للمواطنين.

وفقاً لمسح حديث لـ الإسكوا عام 2025، يعتمد نحو 70% من سكان الريف حالياً على مصادر مياه غير آمنة، كالصهاريج والآبار السطحية غير المعقمة. هذا الواقع أدى إلى ارتفاع معدلات الأمراض المنقولة عبر المياه، من كوليرا والتهاب كبد وبائي في المناطق الأكثر تضرراً. ففي الحسكة مثلاً، تلوّثُ مياه الآبار بمياه الصرف الصحي تسبَّب في موجات متكررة من تفشّي الكوليرا خلال السنين الأخيرة. أما في المدن الكبرى كدمشق وحلب، فبات الحصول على المياه يجبر السكان على خيارات صعبة: إما الانتظار لأيام حتى تأتيهم حصة التقنين القليلة، أو شراء الماء بأسعار باهظة من السوق السوداء. لا عجب أن مشهد الاصطفاف حول صهاريج الماء صار اعتيادياً، وأن ثقافة الترشيد والاقتسام حلت محل صور الهدر والإسراف القديمة. إنها أزمة متعددة الأوجه تضرب أمن الإنسان السوري في صميم حياته اليومية، وتشعل فتيل توترات اجتماعية تحت السطح مرشحة للانفجار إذا استمر الحال على ما هو عليه.

بين السياسة والاقتصاد: أزمة العطش تهدد استقرار سوريا

لم تعد أزمة المياه في سوريا مسألة خدمية أو تنموية ثانوية، بل غدت شأناً سيادياً يمسّ الأمن الوطني برمّته. على الصعيد السياسي الداخلي، يكفي النظر في التداعيات الاجتماعية للأزمة لندرك الخطر الكامن. نقص المياه وانهيار الزراعة ساهما في موجة نزوح داخلي جديدة من الأرياف نحو المدن؛ فقد اضطر أكثر من 2.5 مليون سوري لترك قراهم الجافة والتوجه إلى ضواحي دمشق وحلب وغيرها بحثاً عن موارد بديلة. هذه الهجرة الداخلية الكثيفة أفرزت أحزمة فقر وبؤس حول المدن الكبيرة، بما تحمله من ارتفاع في معدلات البطالة والجريمة والاحتقان الاجتماعي. لقد ظهر جيل جديد من النازحين لأسباب مناخية ومائية، يزيد الضغط على بنية تحتية منهكة أصلاً بفعل الحرب. كل ذلك بمثابة قنبلة موقوتة قد تولّد اضطرابات أمنية وسياسية مع تفاقم شح المياه، خصوصاً إذا شعر الناس أن الدولة عاجزة عن تأمين أبسط مقومات الحياة لهم.

إقليمياً، المياه قضية سياسية ساخنة بين سوريا ودول الجوار. فاستمرار تعثر المفاوضات حول تقاسم مياه الفرات بين دمشق وأنقرة وبغداد يعني استمرار الشح في شمال شرق سوريا، ما قد يدفع الحكومة السورية للبحث عن أوراق ضغط سياسية في ملفات أخرى للمقايضة. كما أن أي انفجار شعبي بسبب العطش قد تستغله أطراف دولية وإقليمية لإضعاف السلطة المركزية. ولا ننسى أن «إسرائيل» – كقوة محتلة في الجولان – تسيطر على منابع مائية هامة مثل منابع نهر الأردن وبحيرة طبريا، مما يحرم جنوب غرب سوريا من موارد مائية استراتيجية. هكذا يتضح أن أزمة الماء تتداخل مع النزاعات السياسية، وقد تصبح شرارة لاضطرابات مستقبلية إذا لم يتم تداركها بخطط ومعاهدات تضمن حقوق سوريا المائية عبر حدودها.

أما على الصعيد الاقتصادي، فإن كلفة العطش باتت تثقل كاهل الاقتصاد السوري المنهك أصلاً. شهد قطاع الزراعة – عصب الاقتصاد التقليدي لسوريا – انهياراً غير مسبوق: فمع تراجع هطول الأمطار وجفاف الأنهار والآبار، تقلص الإنتاج الزراعي بشكل حاد. إنتاج القمح المحلي مثلاً هبط بنحو 60% عن مستوياته المعتادة، مما أجبر الدولة على استيراد نحو 1.2 مليار دولار من القمح سنوياً لتغطية الفجوة. هذا الرقم يُثقل الموازنة العامة المتآكلة تحت ضغط التضخم والعقوبات والديون، ويجعل أمن سوريا الغذائي مرهوناً بتقلبات الأسواق العالمية. ولم يتوقف الأمر عند القمح؛ فمحاصيل استراتيجية أخرى كالقطن والخضروات تراجعت إنتاجيتها بسبب نقص مياه الري، فضاقت سبل العيش في الريف وارتفعت أسعار الغذاء محلياً.

البنية التحتية المتهالكة تزيد الطين بلّة في المشهد الاقتصادي. فقد صار الهدر المائي سمة النظام الحالي، إذ تشير التقديرات إلى أن ما بين 46% و60% من مياه الشرب تضيع هدراً نتيجة تسرب شبكات الأنابيب القديمة قبل أن تصل إلى المستهلك. هذا يعني أن نصف ما يتم ضخه من مياه نادرة لا يصل فعلياً للناس، بل يتسرب في التربة ويفقد دون جدوى. إصلاح هذه الشبكات يتطلب استثمارات هائلة (تُقدر بأكثر من 5 مليارات دولار) لا تملكها الحكومة حالياً بسبب أزمتها الاقتصادية. ومع تراجع إمدادات الكهرباء بحوالي 70% نتيجة أزمة الطاقة، تتعطل مضخات الماء كثيراً، مما يجعل انقطاعات المياه أمراً روتينياً في المدن والقرى على حد سواء. كل هذه العوامل أدت لتدهور مساهمة قطاع الزراعة في الناتج المحلي من 30% قبل 2011 إلى قرابة 13% فقط في 2025، وانعكس ذلك على أحوال المزارعين وشريحة واسعة من السكان التي انزلقت تحت خط الفقر.

في المقابل، نشأ اقتصاد ظلّ يستغل الأزمة ويعمّقها. ظهرت سوق سوداء للمياه يسيطر عليها متنفذون وتجار أزمات، يبيعون الماء بأسعار باهظة لمن استطاع إليه سبيلاً. في حلب مثلاً، يعتمد نحو 40% من الأسر على باعة مياه جوّالين غير رسميين، فارتفعت الأسعار بنسبة 200% خلال عامين فقط. هذا الارتفاع الجنوني شكل عبئاً إضافياً على المواطنين، وزاد من معدلات التضخم في سوق تشكو أصلاً من الغلاء. وهكذا، صارت الماء سلعة نادرة في سوريا، يحدّد سعرها العرض والطلب لا قدرة الدولة. وأمام هذه الصورة القاتمة، تجد الحكومة نفسها في موقف حرج؛ فهي مطالَبة بإيجاد حلول سريعة تخفف من معاناة الناس وتجنّب البلاد مزيداً من الانهيار، وفي الوقت ذاته بوضع استراتيجيات بعيدة المدى تكفل الأمن المائي لأجيال المستقبل. وعجزها عن التصرف الفعال لن يكون مجرد إخفاق خدمي، بل قد يُترجم إلى غضب شعبي واضطراب سياسي يهدد ما تبقّى من استقرار هش.

مخارج وحلول: الطريق نحو إنقاذ سوريا من العطش

برغم حلكة المشهد، لا يزال هناك بصيص من الأمل يمكن البناء عليه لتجاوز أزمة المياه في سوريا. يتطلب الأمر مزيجاً من الحلول العاجلة والإستراتيجيات الطويلة الأمد، بحيث تتكامل المعالجة التقنية مع الإرادة السياسية والإدارة الرشيدة للموارد. وفيما يلي نستعرض أهم المخارج المتاحة أمام الدولة السورية حالياً:

  1. إصلاح البنية الإدارية والتشريعية للمياه: لا بدّ أن تنطلق الحلول من الإقرار بأن الأمن المائي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي والسيادي. وعلى الحكومة أن تضع استراتيجية وطنية شاملة للمياه تعالج الأزمة كأولوية قصوى، تماماً كأولوية الدفاع والحدود. ويتضمن ذلك إصلاح الأطر القانونية الناظمة لاستخدام المياه، عبر سن وتشديد قوانين تمنع الحفر العشوائي للآبار واستنزاف المياه الجوفية دون ترخيص. إنّ فرض نظام صارم لترخيص الآبار مع عقوبات رادعة على المخالفين سيوقف النزيف المستمر للمخزون الجوفي. كذلك ينبغي اعتماد سياسة تسعير تصاعدي وعادل للمياه تشجع على الترشيد؛ بحيث تحصل الأسر الفقيرة على حاجتها الأساسية بتعرفة مدعومة، فيما تُفرض رسوم أعلى على الاستهلاك المترف والمهدِر. لأن مثل هذا النظام يبعث برسالة واضحة أن زمن الإسراف بالماء ولّى، ويحفز الجميع على تغييرات بسيطة في السلوك اليومي يمكنها توفير كميات كبيرة عند جمعها على نطاق وطني.

كما تُطرح فكرة تأسيس هيئة وطنية عليا للمياه تتمتع بصلاحيات تنسيقية وتنفيذية عابرة للوزارات. تتولى هذه الهيئة وضع سياسات مبنية على البيانات العلمية والمعايير الدولية، وتنسق بين وزارات الزراعة والموارد المائية والإسكان والكهرباء وحتى الجهات الأمنية لضمان التكامل في إدارة الملف المائي. باختصار، المطلوب هو إدارة مركزية كفؤة بدلاً من ترك ملف المياه مشتتاً بين إدارات متعددة وضائعاً بين البيروقراطيات.

  1. 2. الحلول التقنية وتحديث البنية التحتية: من رحم الأزمة وُلدت بعض المبادرات التقنية الواعدة التي يمكن البناء عليها وتوسيع نطاقها. أنظمة الريّ الذكية، مثل تقنيات التنقيط والرش المحوسبة، بدأت تجد طريقها إلى بعض المزارع الصغيرة والمتوسطة بدعم من برامج إرشادية. هذه التقنيات تزيد كفاءة استخدام المياه لأضعاف مقارنة بالري بالغمر التقليدي، وهو أمر بالغ الأهمية كون الزراعة تستهلك 85% من موارد المياه في سوريا. يجب توسيع نطاق هذه التقنيات عبر دعم حكومي وقروض ميسرة للمزارعين للتحوّل إلى الري الحديث، ما سيضمن توفير كميات ضخمة كانت تُهدَر في الحقول دون جدوى.

إلى جانب ذلك، شرعت بعض المدن بتجارب في إعادة استخدام المياه الرمادية (مياه الغسيل والمطابخ) لأغراض الري والتنظيف بعد معالجتها بشكل مبسط. مثل هذه الحلول اللامركزية تقلل الهدر وترفد الموارد المائية غير الصالحة للشرب نحو استخدامات أخرى مفيدة. ويمكن تعميم هذه الفكرة على نطاق أوسع في المؤسسات الحكومية والمدارس والجامعات، لترسيخ ثقافة إعادة التدوير المائي في المجتمع.

أما البنية التحتية، فلابد من خطة طوارئ وطنية لإصلاح الشبكات وتقليل الفاقد الفني. من الأهداف الحيوية التي يجب تبنيها تخفيض نسبة الهدر في الشبكات إلى أقل من 20% خلال بضع سنوات، عبر مشروع واسع لتبديل الأنابيب المتهالكة وتركيب أجهزة كشف تسرّب مبكر. هذا استثمار ذو عائد مرتفع على المدى المتوسط؛ فكل ليرة تُنفق في إصلاح التسربات ستوفّر أضعافها مما يُنفق على تأمين موارد مائية جديدة. ولا غنى أيضاً عن رفع كفاءة محطات الضخ والمعالجة الموجودة وإعادة تأهيل المتعطل منها فوراً، فهذه إجراءات إسعافية تمنع مزيداً من الانقطاع في الخدمات الحالية.

وعلى سواحل البحر المتوسط السورية، بدأ الحديث مؤخراً عن حل قد يبدو جذرياً لكنه أصبح ضرورياً؛ ألا وهو تحلية مياه البحر. فقد أعلنت الحكومة أواخر حزيران 2025 عن مشروع لإنشاء محطات تحلية بتكلفة تقارب 1.2 مليار دولار على الساحل السوري. هذا المشروع الضخم الذي يحظى بدعم دولي يهدف لتأمين مصدر مياه بديل للمناطق الساحلية والمدن الكبرى، ويُنتظر أن يقترن بإنشاء 284 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي لاستخدامها في ريّ حوالي 100 ألف هكتار من الأراضي. ورغم التكلفة الباهظة والتحفظات حول الاعتماد على دعم خارجي في مشروع سيادي كهذا، فإن المضي فيه يعكس إدراكاً رسمياً بأن الحلول التقليدية لم تعد تكفي. وإذا نُفِّذ المشروع مع مراعاة الأثر البيئي واستخدام الطاقة المتجددة لتشغيله، فقد يمثل نقلة نوعية في تأمين مورد مائي مستدام يقي البلاد تقلبات المناخ مستقبلاً.

  1. التوعية والمشاركة المجتمعية: إن ترسيخ ثقافة جديدة للتعامل مع الماء بات ضرورياً لضمان استدامة أي حلول تقنية أو إدارية. هنا يبرز دور المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والإعلامية. بدأت بالفعل مبادرات أهلية خلاقة مثل حملة «قطرة تساوي حياة» في دمشق، التي جمعت خلال أشهر فقط أكثر من 500 ألف توقيع من المواطنين للمطالبة بإصلاح سياسات المياه وزيادة الإنفاق على هذا القطاع الحيوي. هذا الضغط الشعبي أجبر الحكومة على الالتفات، حيث شُكلت لجنة حكومية لدراسة تعديل قانون المياه وفرض غرامات على الإسراف في الاستهلاك. مثل هذه الحملة تظهر أن وعي المواطنين يتحول، وأن هناك استعداداً عاماً للتعاون مع الدولة في أي إجراءات منطقية لحفظ المياه.

ينبغي بناء برامج توعوية شاملة تبدأ من المدارس لتعليم الأطفال مبادئ الترشيد وأهمية كل قطرة ماء، وتمتد عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل لتغيير سلوكيات البالغين أيضاً. عندما يدرك الفرد أن توفير لتر واحد اليوم قد يعني ماءً نظيفاً لطفله غداً، سيُقبِل طوعاً على استخدام الدلو بدل الخرطوم في ري الحديقة، وعلى إصلاح الصنبور الذي يسرب ماءً بدل تجاهله. إنها تغييرات بسيطة في العادة اليومية لكن أثرها تراكمي هائل إذا تبناها الملايين.

المشاركة المجتمعية ينبغي أن تتجاوز التوعية إلى إشراك الناس فعلياً في مراقبة وتنفيذ الحلول. على سبيل المثال، تشكيل لجان محلية في الأحياء لمراقبة عدالة توزيع المياه وجدولتها، أو مبادرات شبابية للتطوع في إصلاح أعطال الشبكات في القرى النائية بإشراف فنيين. كذلك تمكين المزارعين من تشكيل جمعيات مستخدمي مياه تدير حصص الري جماعياً بعدل وشفافية. هذه الخطوات تعزز الشعور بالمسؤولية الجماعية وترفع العبء قليلاً عن كاهل الدولة المركزية، وتخلق شراكة حقيقية بين المواطن والمؤسسات في إدارة المورد الأغلى: الماء.

  1. التعاون الإقليمي والدولي: أخيراً، لا يمكن لسوريا أن تواجه أزمة المياه بمعزل عن محيطها. فأنهارها الكبرى مشتركة، ومناخ المنطقة ككل يتغير بوتيرة متسارعة تقتضي تكاتف الجميع. من الضروري إعادة إحياء الاتفاقيات المائية الإقليمية مع دول الجوار، خاصة مع تركيا والعراق بشأن نهري الفرات ودجلة، ومع لبنان بشأن نهر العاصي. الدبلوماسية المائية يجب أن تتحرك على أساس مبدأ «تقاسم الضرر والمنفعة» بحيث تحصل كل دولة على حقها العادل دون إجحاف. قد يكون ذلك تحدياً في ظل التوترات السياسية القائمة، لكنه ليس مستحيلاً إذا ما أُعطي أولوية قصوى ضمن أجندة العمل الإقليمي وبرعاية دولية عند اللزوم.

اقرأ أيضاً: حرائق الساحل السوري.. ما الحل الأجدى للغابات والأراضي المحروقة؟!

كذلك، تستطيع سوريا طلب الدعم الفني والمالي من المنظمات الدولية المعنية. على سبيل المثال، لدى مؤسسات كالأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي خبرات في إقامة شبكات مياه طوارئ في مناطق النزاعات، ويمكن الاستفادة من برامجها لسد الثغرات العاجلة في المناطق المنكوبة بالعطش. كما أن منظمات أممية وإقليمية كمنظمة الفاو ومركز إيكاردا للأبحاث الزراعية يمكن أن تقدم المشورة العلمية والمساعدة في تطوير محاصيل وسلالات زراعية أقل استهلاكاً للمياه وأكثر تحملاً للجفاف. وفي ميدان التمويل، يمكن تسخير ما أُعلن مؤخراً من أموال التعافي وإعادة الإعمار لتتضمن حصة وازنة لمشاريع المياه وإعادة تأهيل السدود وشبكات الري. الاستثمار في الماء اليوم هو استثمار في الاستقرار غداً؛ هذه معادلة ينبغي أن يدركها كل طرف محلي ودولي معني بالشأن السوري.

في المحصلة، مخارج أزمة المياه موجودة وفي المتناول، لكنها تتطلب رؤية شاملة وجهداً متضافراً من كافة المستويات. على الصعيد السياسي، يلزم قرار شجاع يضع الماء في صدارة الأولويات الوطنية، ويلتزم بمعالجة الخلل الإداري ومحاربة الفساد الذي نخر هذا القطاع لسنوات. وعلى الصعيد الاقتصادي والتقني، لا مفر من الإنفاق على البنية التحتية وتحديثها رغم كل الضائقة المالية، فالثمن الفوري كبير لكنه لا يُقارَن بكلفة ترك الأزمة تتفاقم دون علاج. أما مجتمعياً، فكل مبادرة توعية وكل تصرّف مسؤول مهما صغر يمكن أن يُحدِث فرقاً، إذا انتشر كعدوى حميدة بين الناس. لقد باتت سوريا العطشى في مفترق طرق حرج: فإما تحسن استثمار كل قطرة أمل متاحة وتجنّد كل إمكاناتها لتأمين المياه وإنقاذ مستقبل شعبها، وإما أن تواجه ما لا تُحمد عقباه من عواصف العطش التي قد تعصف بأمن الوطن واستقراره. إن تحدي المياه في سوريا اليوم هو تحدٍ وجودي لا يحتمل التأجيل؛ فإما أن ننجح جماعياً في إيجاد مخرج من شبح العطش، أو نكون أمام مصير أكثر ظمأً وظلاماً في قادم السنوات. والأمل لا يزال ممكناً، لكنه مرهون بخطوات عاجلة وقرارات جريئة تضع أزمة المياه في سوريا على طريق الحل المستدام.

اقرأ أيضاً: سوريا عطشى: أزمة المياه تهدّد حياة الملايين والمستقبل مخيف!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى