أزمة السيولة في سوريا مستمرة.. هل تتولى العملة الجديدة الإنقاذ؟

بقلم: ريم ريا
تواجه سوريا منذ سنوات عديدة أزمة سيولة، ألقت بظلالها على حياة المواطنين اليومية، وشلّت حركة الأسواق. النقود شحيحة في التداول والمواطنون يقفون في طوابير لقبض الرواتب، والمصارف تتحكم وتفرض قيوداً صارمة على السحب، كل تلك العوامل عقّدت التعاملات اليومية والتجارية والمعيشية أكثر فأكثر. اتجهت الحكومة السورية مؤخراً إلى طرح عملة جديدة في محاولةٍ منها لاحتواء الأزمة وتخفيف الضغط عن الأسواق. هل ستحل العملة الجديدة هذه المعضلة المتراكمة منذ سنوات؟ في هذا المقال سنبحث بداية أزمة السيولة في سوريا، ونناقش طرح العملة الجديدة ومدى تأثيره، ونعرض جمهورية مصر كنموذج لمحاولات التعافي من أزمات العملة.
بداية أزمة السيولة في سوريا
برزت أزمة السيولة في سوريا، كأبرز التحديات الاقتصادية التي واجهتها البلاد في السنوات الأخيرة. برزت هذه الأزمة لتؤرق أفكار السوريين قبل جيوبهم بشكل واضح منذ عام 2019، عندما بدأت المصارف السورية تعاني من شحٍ واضح في النقد المتداول وصعوبة بالغة في تلبية طلبات السحب اليومية للمواطنين.
تفاقمت الأزمة مع تشديد العقوبات الاقتصادية على سوريا، ولا سيما بعد دخول قانون قيصر حيز التنفيذ في عام 2020، ما أدى إلى تراجع التحويلات الخارجية، إلى جانب الأزمة المالية في لبنان عام 2019 التي جمدت جزءاً كبيراً من أموال التجار والمودعين السوريين في المصارف اللبنانية.
مع مرور الوقت في سوريا، تزايد الضغط أكثر على النظام المصرفي المحلي، لتبلغ الأزمة ذروتها في عامي 2022- 2023، فباتت حينها السيولة النقدية محدودة للغاية، ما انعكس على حركة الأسواق وسبب تراجعاً حاداً فيها، إضافةً إلى تعطل جزء من النشاط الاقتصادي اليومي.
حتى اليوم بعد التحرير، لا تزال أزمة السيولة في سوريا أحد أبرز مظاهر “الاختناق المالي”، في ظل محاولات حكومية حثيثة للسيطرة على الوضع من خلال طرح عملة جديدة علّها تخفف الضغط عن الأسواق وتمهد الطريق لحل الأزمة.
اقرأ أيضاً: أموال السوريين في لبنان: نحو الانفراج أم ورقة ضغط!
اقتصاد الأزمة.. بيئة خصبة لنقص السيولة
أزمة السيولة في سوريا تمثلت في قلة النقود المتاحة بين أيدي الناس والشركات، ما جمّد النشاط الاقتصادي وزاد من معاناة المواطنين. ويعتبر ما يعرف “باقتصاد الأزمة” أحد أبرز العوامل التي غذت نقص السيولة في سوريا، ومنعت من تعافي الدورة النقدية في البلاد.
فمع طول أمد الصراع في البلاد وتشديد العقوبات عليها، تحوّل الاقتصاد السوري من اقتصاد إنتاجي وتجاري إلى اقتصاد يصارع على البقاء محاولاً التكيف، يعتمد على شبكات ضيقة من النفوذ والاحتكار والتهريب. نمط الاقتصاد هذا ساعد على تكدس الأموال بيد قلة من تجار الأزمات والمستفيدين منها، بينما حُرم السوق من تدفق النقد الحقيقي.
تحولت أزمة السيولة في سوريا من مشكلة مؤقتة إلى ظاهرة مزمنة، أدت إلى انتشار اقتصاد الظل وانتعاش السوق السوداء، بالتالي خروج كميات كبيرة من الأموال من سيطرة النظام المصرفي، إلى جانب التقنين المالي وسياسات قيود السحب والتحويل.
في سياق متصل، يُوّصف الخبير الاقتصادي “جورج خزام” اقتصاد الأزمة ويناقش حلولاً له، برأي الخبير الاقتصادي: “إن الانهيار الكبير في القوة الشرائية لليرة السورية الذي ترافق مع تراجع الإنتاج وزيادة المستوردات مقابل تراجع الصادرات وعليه يجب إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية، ودراسة القرارات الفاشلة والهدامة في السياسة النقدية الاقتصادية التي كانت السبب بانهيار الليرة السورية و لتراجع عنها بالسرعة القصوى، والأكثر أهمية هو معرفة ما هي أسباب التمسك المفرط بتلك القرارات التي جلبت الخراب والانهيار للاقتصاد الوطني”.
يضيف الخبير، أن كل الدول التي خرجت منهارة اقتصادياً بعد حروبها عادت أقوى مما كانت عليه مثل ألمانيا واليابان. وبرأيه الحل تبعاً لتجارب تلك الدول، يكمن في إعطاء الأمان المطلق لرأس المال الجبان بالدولار والليرة السورية بالعمل بحرية مطلقة دون السؤال عن المصدر، إلى جانب تجريم كل من يضع العقبات أمام حركة الأموال والبضائع لتحقيق أي منفعة خاصة. ويرى الخبير خزام ضرورةً في تحرير الاقتصاد من كل رواسب الأفكار القديمة البالية التي ما زال بعض المسؤولين يتمسكون بها في مراكز اتخاذ القرار الاقتصادي والمالي التي تتبنى تقييد حركة الأموال والبضائع بحجة تخفيض الطلب على الدولار والتي لم تجلب سوى الخراب للبلاد والعباد. حسب تعبيره، مضيفاً أن سعر صرف الدولار بالمركزي خلال عام 2023 قد تضاعف 4 مرات من 3,015 ليرة إلى 12,600 ليرة، هذا يعني أنه خلال سنة أو سنتين في حال تبني اقتصاد الأزمة من الممكن أن يتراجع سعر الدولار إلى 3,000 ليرة.
آخر التقارير والتصريحات حول أزمة السيولة في سوريا
عقب مرور أكثر من 9 أشهر على سقوط الأسد، لا تزال أزمة شح السيولة النقدية من الليرة السورية مستمرة، حيث تؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد والخدمات في البلاد، وتؤثر بشكل خاص على الأسر التي تعتمد على الأجور اليومية أو الشهرية، مثل أصحاب المهن الحرة والعاملين في القطاعين العام والخاص.
على الرغم من أن التقديرات تشير إلى ضخ كميات هائلة من السيولة تصل بين 25 إلى 30 ألف مليار ليرة خلال سنوات الحرب السورية، إلا أن هذه السيولة ليست متوفرة في المصارف أو لدى البنك المركزي، ولا تظهر بشكل كبير في التداول بين أيدي الناس. وقد فشل خبراء البنك الدولي في زيارتهم الأخيرة إلى سوريا في تقديم تفسير علمي لأزمة السيولة هذه، لتبقى هناك أسئلة مهمة بحاجة إلى إجابة من قبل المصرف المركزي في سوريا.
نلاحظ أنه من الصعب تحديد الحجم الدقيق للكتلة النقدية المتداولة في سوريا، خاصةً بعد توقف المصرف المركزي عن نشر بياناته النقدية منذ عام 2011. مع ذلك، تشير تقديرات بعض الباحثين الاقتصاديين إلى أن هناك توسعاً كبيراً في طباعة العملة واعتماداً على “التمويل بالعجز” في السنوات الأخيرة.
حسب بيانات هيئة التخطيط الحكومية، بلغ نمو المعروض النقدي بالمعنى الواسع نحو 63% عام 2020، مقارنة بـ 26% عام 2019، كما بلغت نسبة المعروض النقدي من الاحتياطيات نحو 320 % عام 2019. هذه الأرقام تعكس سياسة طباعة العملة لمواجهة تراجع إيرادات الخزينة وزيادة الإنفاق العام. وفي ذات السياق، قدر البنك الدولي، في تقريره الأخير، حجم المعروض النقدي في عام 2023 بنحو 18.5% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل زهاء 39.020 ألف مليار ليرة سورية وفقاً لسعر الصرف في السوق الموازية. لتتقاطع التقديرات مع رأي الخبيرة الاقتصادية “رشا سيروب” بأن قيمة النقد المُصدر قدّرت بنحو 35 تريليون ليرة، بناءً على تصريحات لحاكم المصرف المركزي السوري.
في مقابلة له مع قناة “سكاي نيوز عربية”، ربط حاكم مصرف سوريا المركزي “عبد القادر حصرية” إصدار العملة الجديدة بقدرة المصرف على استعادة أدوات السياسة النقدية التي افتقدها في السنوات الأخيرة الماضية. إذ يرى أن الإصلاح النقدي ليس غاية بحد ذاته، بل مدخل لإعادة الثقة وإحياء الدورة الاقتصادية. لكنه دعا المواطنين كذلك إلى الابتعاد عن السلوكيات الفردية التي قد تفاقم الأزمة، مثل الاكتناز المفرط أو التوجه إلى العملات الأجنبية، محذراً من أن “التصرف الفردي الأناني يوقف النشاط الاقتصادي ويؤدي إلى الإفقار الجماعي”.
بشأن العملة الجديدة، وضح “الحصرية” أن الاستبدال سيتم وفق قانون السلطة النقدية رقم 23، الذي يحدد مراحل زمنية واضحة: تبدأ بمرحلة تمهيدية قبل الإطلاق، ثم تمر بفترة “التعايش” حيث يتم تداول العملتين معاً، وصولاً إلى مرحلة الاستبدال النهائي التي قد تمتد حتى خمس سنوات. وبموجب هذا الإطار، يلتزم المصرف المركزي باستبدال أي ورقة نقدية قديمة بأخرى جديدة طول المدة المحددة. في حين طمأن الحصرية المواطنين قائلاً: “أي شخص يملك ليرة قديمة سيتم استبدالها بليرة جديدة، والالتزام كامل حتى آخر قرش”.
طرح العملة الجديدة في البلاد
أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي عن إصدار جديد من الليرة السورية بست فئات بتصميم حديث خال من الصور والرموز، والهدف منه تحسين كفاءة التداول إلى جانب النية باستبدال الأوراق التالفة لكن دون زيادة الكتلة النقدية، إضافةً إلى إجراءات مترافقة مع ضبط السيولة لمنع التضخم. اعتبر حاكم مصرف سوريا هذه الخطوة تعزيزاً للثقة بالعملة الوطنية ودعماً للنشاط الاقتصادي من خلال تسهيل المعاملات.
إلاّ أن بعض الخبراء الاقتصاديين يرون في طرح العملة الجديدة معالجة سطحية لا عميقة لأزمة السيولة ونقصها في البلاد، إذ رأى الخبير الاقتصادي “نادر حموي” أن إصدار العملة الجديدة هو خطوة شكلية لا تعالج جذور أزمة العملة، منتقداً غياب الشفافية في عرض تكاليف الطباعة، مطلقاً تحذيرات بشأن ارتفاع التضخم في حال لم يُسحب الفائض النقدي. ويرى “حموي” أن الاستقرار الحقيقي يتطلب إصلاحات اقتصادية شاملة تتجاوز مجرد استبدال الأوراق النقدية.
ويتقاطع معه جزئياً الخبير الاقتصادي “جورج خزام”، الذي ربط طرح العملة الجديدة باستقرار الدولار حيث قال، “بما أن ارتفاع سعر صرف الدولار هو أمر حتمي بسبب إصدار الليرة الجديدة، وبسبب عودة السيولة بالليرة السورية التي فقدتها الأسواق من قبل المركزي والصرافين وبسبب زيادة الرواتب 200% دون زيادة مساوية لها بالإنتاج والعرض المستمر من الدولار مع الاستمرار بالإغراق بالمستوردات البديلة عن المنتج الوطني بجمارك منخفضة. فعند الوصول إلى أعلى سعر للدولار مقابل الليرة السورية هو الوقت المناسب حتى يقوم المركزي بسحب الإصدار القديم من الليرة السورية بشراء الليرة القديمة مقابل الدولار، وليس باستبدال الليرة القديمة بالطباعة الجديدة من “الليرة الحديثة”، وعندها سوف ينخفض سعر الدولار مقابل الليرة الجديدة بعد أن يكون المركزي قام بسحب تريليونات الليرات القديمة مع تراجع العرض من الليرة المترافق مع زيادة بالعرض بالدولار. وأكمل “خزام” مضيفاً، إذا كان سعر صرف الدولار 11,000 ليرة و ارتفع إلى 17,000 ليرة فإن تصريف 100$ يؤدي لسحب مبلغ إضافي من الليرة السورية مقداره 600,000 ليرة بدلاً من استبداله بنيو ليرة. لنجاح تطبيق هذه الطريقة يجب إعلان اقتصاد الأزمة من خلال تخفيض المستوردات لأدنى درجة ممكنة حتى لا تذهب أموال المركزي بالدولار التي تم ضخها بالأسواق لتمويل مستوردات كمالية ومستوردات بديلة عن المنتج الوطني.
اقرأ أيضاً: بالأرقام التفصيلية: ما الذي يكشفه تقرير البنك الدولي الجديد حول سوريا؟
مصر كنموذج لمحاولات التعافي
في ضوء هذه التطورات، يمكن مقارنة التجربة السورية جزئياً بتجربة مصر في مواجهة نقص السيولة، إذ لا تزال مصر تواجه أزمة نقص السيولة لكن بطور التعافي منها، ويمكن النظر إليها كنموذج يحاول بالإمكانيات المتاحة حل أزمة السيولة، واستقاء بعض الحلول منها.
واجهت مصر الأزمة التي اشتدت في العام 2016 من خلال مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والمالية التي هدفت من خلالها إلى تعزيز الثقة في النظام المصرفي وجذب التدفقات النقدية للبلاد.
اتجهت الحكومة المصرية والبنك المركزي في مصر إلى تبني سياسات تهدف إلى رفع أسعار الفائدة لجذب المدخرات بالعملة المحلية، وطرحت شهادات استثمار بعوائد مرتفعة للحد من “الدولرة” وتشجيع المواطنين على الإيداع في البنوك.
إلى جانب العمل على تحرير سعر الصرف بغية تحسين توافر النقد الأجنبي، كما عملت للحصول على دعم من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، إلى جانب زيادة الصادرات وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر والاعتماد على عائدات السياحة التي سجلت ارتفاعاً ملحوظاً. كل هذه الخطوات مجتمعة ساعدت على تخفيف حدة أزمة السيولة وتحقيق قدر نسبي من الاستقرار النقدي.

