أجيال على حافة الهاوية: التسرب المدرسي يهدّد مستقبل البلاد فما العمل؟!

الكاتب: أحمد علي
جرسٌ يرنّ، ولا أحد ينهض.. على مقاعد كان يُفترض أن تزدحم بأحلام الطفولة، يجلس الغياب وحده. صورةٌ كهذه ليست لقطة عابرة في ذاكرة حربٍ طويلة، بل مشهد يومي يطال ملايين الأطفال. فحين يتحوّل دفتر المدرسة إلى رزنامة عمل، ويغدو الحرف ترفاً أمام لقمةٍ صعبة المنال، يصبح التعليم معركة بقاء لا مجرد حق. هنا يبدأ السؤال الكبير: كيف نعيد الحلم إلى الصف، وكيف نوقف نزيف الطفولة نحو الهامش؟
التسرب المدرسي في سوريا — أرقام صادمة تضيء جرس الخطر
لم يعد التسرب المدرسي في سوريا ظاهرةً يمكن الالتفاف حولها بكلماتٍ مطمئنة. إذ تشير التقديرات الأممية الأخيرة إلى أنّ حوالي ٢.٤ مليون طفل خارج مقاعد الدراسة، وهو رقم يفوق القدرة على التبرير ويضع المجتمع أمام مفترق طرق. فليست القضية مجرد أعداد؛ بل إنها مصائر تتشكل بعيداً عن السبورة، ومهارات تُفقد قبل أن تولد، وثقة تُقوَّض في المؤسسات التي يفترض أن تحمي الأضعف.
ومن نافل القول إنه حين يطول غياب الطفل عن الصف، يصبح الرجوع أصعب؛ ينفصل الإيقاع الدراسي، وتتراجع المهارات الأساسية، وتبدأ دائرة جديدة من الحرمان تتغذّى من نفسها باستمرار.
من الفقر إلى النزوح: لماذا يغادر الأطفال مقاعدهم؟
للخروج المبكر من المدرسة أسباب متداخلة، تبدأ من الاقتصاد ولا تنتهي عند الأمن. الأسرة التي تعيش على الهامش ترى في التعليم كلفةً مؤجلة لا تُحتمل عاجلاً، فتدفع أبناءها للبحث عن دخلٍ طارئ.
أيضاً، النزوح المتكرر يقتلع المدرسة من الجذور، فينتقل الطفل بين أماكن لا تعرف استقراراً، فتتلاشى عاداته الدراسية شيئاً فشيئاً. والبنية التحتية المتهالكة، من مدارس متضررة ومرافق مفقودة ومعلمين مُنهكين، تضعف جاذبية المؤسسة التعليمية.
ثم بعد ذلك، يأتي البعد النفسي؛ طفل شهد العنف أو فقدان الأحبة يحتاج إلى رعاية متخصصة قبل أن يكون قادراً على استئناف التعلم. وحين تجتمع هذه العوامل، يغدو التسرب المدرسي في سوريا نتيجة شبه حتمية لمنظومة ضغط لا ترحم.
إلى أين يذهبون بدلاً من المدرسة؟
الجواب الموجع: إلى الحياة بكل خشونتها. بعض الأطفال ينزلقون إلى سوق العمل، وبعضهم يحاصرهم الفراغ في الشوارع والمخيمات، وآخرون يستسلمون للعزلة خلف أبواب البيوت. هناك من يقطع مسافات طويلة بحثاً عن رزقٍ يومي، وهناك من يتولى رعاية الأشقاء الصغار في غياب الأهل أو انشغالهم. لا يقتصر الأمر على الذكور؛ فالفتيات يدفعن ثمن التسرب أيضاً، بين عملٍ منزليٍّ مكثّف أو زواجٍ مبكر يجهض مستقبلاً كان يمكن أن يزهر.
في كل الحالات تُستبدل المدرسة بمسرحٍ غير آمن، يعلّم مهارات البقاء السريع، لكنه يسرق مفاتيح المستقبل.
عمل مبكر بأجور زهيدة: خرائط قاسية لعمالة الأطفال
حين يدخل الطفل سوق العمل، غالباً ما يجد نفسه في أطراف الاقتصاد: ورشة حدادة أو نجارة، محل صيانة بسيطة، بيع متجوّل، أعمال زراعية موسمية، تحميل وتفريغ، أو خدمات تُدفع أجورها يومياً. ساعات طويلة، أجور هزيلة، وبيئات خطرة لا تلتزم بمعايير السلامة…
يتعلّم الطفل الانضباط القسري بدل الانضباط المدرسي، ويحفظ مفردات التعرّض والاستغلال قبل أن يتقن الأبجدية. ويترك هذا التحول آثاراً صحية ونفسية عميقة: إرهاق مزمن، إصابات جسدية محتملة، وشعور مبكر بالدونية يثقل الشخصية. ومع تكرار هذا المسار على نطاق واسع، تتسع دائرة الفقر المتوارث، ويتحول التسرب المدرسي في سوريا إلى قناة رئيسية تغذي اقتصاد الظل.
كلفة لا تُرى: مجتمع يفقد رأس ماله البشري
الخطر الأكبر لا يظهر فوراً. المجتمع الذي يعتاد غياب التعليم يراكم هشاشةً مؤجلة. انخفاض معدلات التعلّم يعني إنتاجية أقل على المدى الطويل، وتراجع القدرة على جذب الاستثمارات، واتساع فجوة المهارات في سوق العمل.
إضافة لذلك، وفي عصر التكنولوجيا الذي نحياه، تنتشر الأميّة الرقمية، فتغدو التكنولوجيا باباً مغلقاً أمام أجيالٍ بأكملها. وترتفع مخاطر الانجرار نحو الجريمة الصغيرة أو الاستغلال أو التجنيد في أنشطة غير قانونية، كما تتسع قابلية التطرّف حين يخلو الفراغ من البدائل الآمنة.
أيضاً، نسيج الثقة يتصدّع؛ إذ يشعر المتسربون من المدارس بأن الدولة والمجتمع تخليا عنهم، ويتكرّس هذا الشعور شيئاً فشيئاً، فيتراجع الانتماء ويخبو الإحساس بالعدالة.
المدرسة كملاذ: لماذا يبقى التعليم هو الجواب؟
قد يشعر القارئ بأن شكل معالجة وفهم الأمر المطروح هنا، يحمل رومانسية مبالغ فيها بعض الشيء، لكن الحقيقة غير ذلك، فالمدرسة في نهاية المطاف بنية حماية اجتماعية قبل أن تكون مكاناً لتلقي الدروس. توفر الروتين الذي ينظم الحياة، الصداقات، المعنى اليومي للحياة، والنافذة على عالمٍ أوسع.
حلول عاجلة: إغلاق صنبور التسرب الآن
الحلول ليست شعاراً عاماً؛ يمكن البدء بإجراءات قابلة للتنفيذ فوراً. منها مثلاً فتح صفوف التعليم المسرّع لتعويض الفاقد. إعادة تأهيل المدارس المتضررة عبر نماذج بناء منخفضة التكلفة، والاعتماد على الطاقة الشمسية لضمان استمرارية العملية التعليمية وفصلها عن حال الطاقة المتعثر في البلاد، وبما يتطبه ذلك من توفير المياه والصرف الصحي اللائق.
وفي البيئات التي يصعب فيها الوصول، يمكن للتعليم المدمج أن يوفر جسراً حقيقياً: دروس حضورية متقطعة تُدعم بحزم تعلّم منزلية ومنصات رقمية مبسطة، مع توفير الأجهزة الأساسية عبر قروض صغيرة أو منحٍ للأسر.
إصلاح أعمق: بناء نظام يقاوم الأزمات
الاستجابة العاجلة يجب أن تتصل بإصلاحات بنيوية تُحصّن المنظومة. تدريب المعلّمين على الدعم النفسي والتعلّم التعويضي، تحديث المناهج لتقترب من واقع السوق، إدخال مسارات تعليم مهني مرنة تبدأ مبكراً وتضمن كرامة المتعلم، وتطوير أدوات تقييم تُركز على المهارات الأساسية لا على الحفظ.
كذلك ينبغي تعزيز الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، بحيث تُفتح أبواب التدريب المدفوع للبالغين والشباب المتسربين، ويُمنح أصحاب الأعمال حوافز مقابل إبقاء الأطفال خارج سوق العمل. ولأنّ التسرب المدرسي في سوريا يتغذّى من الفقر، فإنّ برامج الحماية الاجتماعية الشفافة والموجهة بدقة تصبح جزءاً من سياسة تعليمية لا منحة طارئة.
مسؤولية مشتركة: لا أحد يقف خارج الصورة
المشهد أكبر من أن تحمله مؤسسة واحدة. المجتمع المحلي يستطيع أن يوفّر شبكات نقل تطوعية، وأن يراقب عمل الأطفال ويبلغ عن الانتهاكات، وأن يفتح مراكز مجتمعية للدعم الدراسي. أيضاً الإعلام قادر على تحويل التسرب المدرسي في سوريا إلى قضية رأي عام لا تغيب عن العناوين، وتلفت النظر إلى حساسية المسألة وأهميتها.
أيضاً، القطاع الخاص يمكنه تمويل صناديق منحٍ مدرسية وتمرير خبراته في التدريب والعمل اللائق. والآباء والأمهات، على الرغم من ثقل الفقر، يملكون قراراً حاسماً: الإيمان بأنّ المدرسة ليست عبئاً بل استثماراً في كرامة الأسرة كلها.
خاتمة تضع النقطة على السطر
ختاماً، لا تُبنى الأوطان بالحجارة وحدها، بل بالعقول التي تتشكّل في قاعات الدرس. فحين نختار أن نواجه التسرب المدرسي في سوريا بقرارات شجاعة وموارد ذكية وإرادة لا تساوم، نكون قد وضعنا أول حجرٍ في طريق تعافٍ طويل. وليس المطلوب معجزة؛ المطلوب أن نعامِل التعليم كخدمةٍ إنقاذية، وأن نمنح الطفل/الطالب سبباً يومياً ليحمل حقيبته من جديد.. عندها فقط سيتحوّل رنين الجرس من صدى فارغ إلى بداية يومٍ جديد، ويعود المستقبل إلى مقاعده الطبيعية.
اقرأ أيضاً: الطلاب العائدون من الخارج.. بين واقع تعليمي صعب وتحديات مجتمعية

