الكاتب: أحمد علي
بعد سكون السماء السورية الطويل، والذي استمر سنواتٍ بفعل الحرب والانقطاع، بدأ فجر جديد يتسلّل بخجلٍ وثقة إلى المدارج التي عادت تنبض مجدداً بالحياة. فالطائرات التي كانت غائبة عن المشهد، عادت تحمل آمالاً وشراكات وتحوّلات سياسية، في مؤشر لا يقتصر على إعادة تشغيل قطاع الطيران السوري فقط، بل يعكس تغيّراً أعمق في ملامح سوريا ما بعد السلطة السابقة ورأسها الهارب. كل التفاصيل في هذا المقال من «سوريا اليوم 24»..
قطاع الطيران السوري: السياق والتحوّل
منذ أن تم الإعلان عن سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، وما تبعه من فراره إلى روسيا، بدأت بوادر تحوّل شامل تطال كل مفاصل الدولة السورية، كان من أبرزها قطاع الطيران المدني الذي ظل مجمّداً أو خاضعاً لرقابة صارمة وعقوبات لعقد كامل. ففي بداية عام 2025، شهدت سوريا واحدة من أبرز لحظات الانفتاح عندما انطلقت أولى الرحلات الجوية الداخلية بين دمشق وحلب، منهيةً قطيعة استمرت ثلاثة عشر عاماً، لتكون تلك الرحلة علامة فارقة على طريق استعادة حركة النقل الجوي، وعودة الثقة تدريجياً إلى الأجواء السورية.
تحقيق «Eekad» – مصير أسطول الشحن الحكومي
ألقى تحقيق صحفي استقصائي أعدّه فريق “إيكاد” الضوء على مصير عدد من الطائرات التي كانت تابعة للنظام السوري، وتحديداً ثلاث طائرات من طراز Il-76 المُخصصة للشحن العسكري والمدني. تبيّن من خلال تتبّع بيانات الملاحة وتحليل مصادر مفتوحة، أن واحدة من هذه الطائرات هبطت في مطار «صُبها» الليبي الخاضع لسيطرة خليفة حفتر، فيما كشفت معلومات أخرى عن طائرة ثانية أصبحت تُستخدم في رحلات خاصة وتجارية ضمن ما بات يُعرف بـ«الطائرة اللبنانية»، إذ استُؤجرت من خلال شركة مقرّها دبي، ومسجلة في غامبيا، وتم استخدامها لاحقاً لنقل شخصيات بارزة من النظام السوري إلى روسيا قبيل سقوطه.
وهذه النتائج التي خلص إليها التحقيق أظهرت تعقيدات المشهد السوري حتى على مستوى الملاحة الجوية، وكيفية توظيف الطائرات في سياقات سياسية وأمنية متشابكة.
الشركات الجديدة – فجر الجيل التالي
وفي مشهد يعكس بداية مرحلة جديدة في صناعة الطيران السورية، برزت على الساحة شركة جديدة تحمل اسم “Fly Cham”، والتي تأسّست في أيار 2025 بدعم استثماري إماراتي مباشر، كجزء من مبادرة شراكة مع الحكومة السورية. لم تنتظر الشركة طويلاً لتطلق أولى رحلاتها، حيث دشّنت أول رحلة تجارية لها من مطار دمشق إلى أبو ظبي في 11 حزيران 2025، مستخدمة أسطولاً مكوّناً من ثلاث طائرات من طراز Airbus A320-200.
وتشغّل الشركة حالياً خطوطاً إلى سبع وجهات رئيسية تشمل أبو ظبي والشارقة في الإمارات، بغداد وأربيل في العراق، الكويت، مسقط في سلطنة عمان، إضافة إلى دمشق وحلب داخلياً. وتشير هذه الانطلاقة إلى رؤية واضحة تهدف إلى تعزيز العلاقات التجارية والسياسية بين سوريا ودول الخليج والعراق، عبر مدّ جسور الطيران المتبادل.
اندماج وتحوّل – Cham Wings Airlines
في موازاة ولادة Fly Cham، شهدت الساحة السورية تطوّراً آخر تمثّل في إعادة تموضع شركة “أجنحة الشام” Cham Wings Airlines، التي كانت أول شركة طيران خاصة في سوريا منذ تأسيسها عام 2007. فبعد استئناف نشاطها بداية عام 2025، بدعم من رفع العقوبات جزئياً، بدأت ملامح اندماج عملي بينها وبين Fly Cham، حيث تم نقل أسطولها، الذي كان يضم خمس طائرات من طراز A320، إلى الشركة الجديدة.
وفي الوقت الذي كانت أجنحة الشام تشغّل خطوطاً إلى وجهات خليجية وروسيا قبل الانقطاع، فإن انتقال مواردها إلى Fly Cham يبدو خطوة ضمن إعادة هيكلة شاملة للقطاع، تهدف إلى تركيز الجهود في كيان جديد مدعوم سياسياً واقتصادياً.
إعادة عدد من شركات الطيران الدولية
عودة سوريا إلى خريطة الطيران الإقليمي والدولي تبلورت أيضاً في تحركات من شركات طيران أجنبية استأنفت أو دشّنت رحلات جديدة نحو الأراضي السورية. فشركة AJet التركية، التابعة للخطوط الجوية التركية، أعلنت في حزيران الجاري عن إطلاق رحلات مباشرة من إسطنبول (مطار صبيحة كوكجن) وأنقرة إلى دمشق، بمعدّل أربع رحلات أسبوعياً، مع خطط لزيادتها إلى رحلة يومية ابتداءً من تموز. وفي الوقت ذاته، بدأت الخطوط الجوية السورية Syrian Air بتسيير رحلات مباشرة من دمشق إلى إسطنبول بمعدّل خمس رحلات أسبوعياً، وفق ما نشرته وكالة DHA.
وفي حدث اعتُبر رمزياً على الصعيد الأوروبي، أطلقت شركة Dan Air الرومانية، وهي أول شركة تابعة للاتحاد الأوروبي تدخل المجال الجوي السوري بعد سنوات، رحلات مباشرة من بوخارست إلى دمشق بمعدّل ست رحلات أسبوعياً، إضافة إلى جدول يتضمن رحلتين أسبوعياً من ستوكهولم، وفرانكفورت، وبرلين، وجميعها باستخدام طائرات A320.
أما من دول الجوار، فقد أعلنت قطر عن تشغيل عشر رحلات أسبوعياً بين الدوحة ودمشق، بينما أطلقت الخطوط الجوية الأردنية 11 رحلة أسبوعياً من عمّان إلى دمشق، وأضافت رحلات جديدة إلى حلب بمعدّل ثلاث رحلات أسبوعية. ولم تكن الإمارات بعيدة عن المشهد، فقد أعلنت طيران الإمارات Emirates عن استئناف رحلاتها بين دبي ودمشق اعتباراً من 16 تموز 2025، بثلاث رحلات أسبوعياً، سترتفع تدريجياً إلى أربع، على أن تصل إلى رحلتين يومياً في نهاية تشرين الأول.
فيما عبّر الرئيس التنفيذي لشركة flyadeal السعودية عن استعداد شركته لإطلاق رحلاتها نحو سوريا ابتداءً من تموز المقبل، وهو ما يُنتظر أن يُشكّل نقلة نوعية في استئناف العلاقات الجوية بين سوريا والسعودية.
بيانات وإحصائيات أساسية
تشير أحدث البيانات إلى أن Fly Cham تشغّل ثلاث طائرات من طراز A320 منذ تأسيسها، بينما كانت Cham Wings تملك خمس طائرات من نفس الطراز قبل اندماجها ضمن الشركة الجديدة. كما تعمل Syrian Air بشكل محدود بطائرة واحدة فعّالة تقريباً، وسط تعدد الوجهات المفتوحة. من جانبها، بدأت AJet رحلاتها بمعدّل أربع رحلات أسبوعياً، فيما تدير Dan Air عملياتها نحو أربع وجهات رئيسية. وقد حددت Emirates تشغيل طائرات Boeing 777-200LR على خط دبي – دمشق، بينما تستعد flyadeal لبدء عملياتها خلال أسابيع.
تصريحات رسمية ورؤى
وفي سلسلة من التصريحات التي رافقت هذه العودة التدريجية، عبّر Matt Ian David، الرئيس التنفيذي لشركة Dan Air، عن رؤيته لضرورة تجاوز العزلة السياسية وقال: «الطيران يجب أن يوصل، لا يعزل… اخترنا السير بمهنية ومسؤولية». أما الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم، رئيس مجلس إدارة طيران الإمارات، فقد شدّد على أهمية الربط مع أبناء الجاليات السورية في الشتات، مؤكداً أن هذه الخطوة تدعم الاستثمار وتنعش قدرات التبادل التجاري.
ومن جهته، أعلن ستيفين غرينوي Steven Greenway، الرئيس التنفيذي لشركة flyadeal، عن جاهزية شركته لتغطية احتياجات السوق السورية في أقرب وقت ممكن. كما أكدت الهيئة العامة للطيران المدني في السعودية (GACA) توقيع مذكرات تفاهم مع الجانب القطري، إلى جانب اتفاقيات تعاون مع منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) لإعادة تأهيل البنية التحتية الجوية في سوريا.
اقرأ ايضاً: يارا خضير.. وإنجاز جديد لسورية في الطيران الشراعي
الآفاق والتحديات
لا تقتصر أهمية عودة قطاع الطيران السوري على الجانب الاقتصادي فقط، بل تمتد لتشكّل مؤشراً سياسياً على بدء انفتاح تدريجي في العلاقات الإقليمية والدولية. وتشير هذه العودة إلى فرص كبيرة في التجارة والاستثمار، خصوصاً في ظل الحاجة الملحة لخطوط الشحن الجوي التي تسهم في تسهيل التبادل التجاري. كما أن انخراط رؤوس أموال إماراتية وسعودية وقطرية في هذا القطاع يعكس مستوى من الثقة والمخاطرة المدروسة.
مع ذلك، يواجه القطاع تحديات لا يُستهان بها، أبرزها إعادة تأهيل البنية التحتية في المطارات، وتوفير متطلبات السلامة الجوية وفق المعايير الدولية، وضمان الامتثال لشروط رفع العقوبات، لا سيما أن شركات مثل أجنحة الشام كانت على قوائم العقوبات الدولية لسنوات طويلة. وفي الوقت ذاته، يجب توفير بيئة تنظيمية وقانونية تضمن شفافية الاستثمار وتحقيق عوائد اقتصادية حقيقية.
ختاماً، هكذا تعود سوريا إلى خريطة الطيران المدني الدولي، ليس كبلد نجح في إعادة تشغيل المطارات، بل كدولة تخطو أولى خطواتها نحو مستقبل سياسي واقتصادي مختلف. فبين انطلاق Fly Cham، وعودة شركات مثل Emirates وDan Air، يتراءى المشهد الجوي السوري وكأنه لوحة تعيد رسم الجغرافيا السياسية من جديد، لكن التحدي يبقى في تحويل هذه الإشارات إلى بنى دائمة، تعيد للسوريين ثقتهم بأن سماءهم باتت مفتوحة نحو الغد.
